تم اختيار البروفسيور إبراهيم غندور المثقف والطبيب الذي هجر الحبر والطبشور والكتب وأرق المستشفيات، إلى فضاء السياسة بواقعية وانفتاح جعله قريباً من الناس.. جاءت به التغييرات الأخيرة لأمانة الإعلام برغبة نصف أهلها وبأشواق النصف الآخر من الجالسين في الرصيف.. وأمام غندور مهام عسيرة وتطلعات كبيرة وخيوط متنافرة وصراعات لمراكز عديدة كلٍ يسعى للإعلام، منهم من يسعى إليه ليصبح الإعلام بوقاً بين يديه، ومنهم الساعي لكبت صوته وجعله إعلاماً (أنيساً) يحتفي بزيارة وزير الصحة لمستشفى الخرطوم، ويمجد وزير المالية في مناخ العسر المعيشي والضنك وتضخم الجيوب بالفقر.. جاء بروفيسور غندور لقلعة الإعلام من نقابات العمال التي أخمد فيها نيران الإضرابات التي كانت تقعد بالأداء التنفيذي في الدولة، ولم يصادر حق العمال في الاحتجاج لكنه حمل المالية على دفع رواتب العمال قبل جفاف العرق على الجبين!! بالأماني والتفاؤل استقبل البروفيسور غندور في موقعه بأمانة الإعلام، فهل يملك مفاتيح (اللغز) الذي أعيا البروفسيور إبراهيم وأرق مولانا (الطاهر) ولم يفلح شيخ العرب (الدنقلاوي) (شيلا) في تحديد وصفته العلاجية، فما هي القضايا التي تنتظر البروفيسور غندور.. وهل يفك الرجل طوق العزلة المفروض على قيادة الدولة ويصبح للإعلام وجود في القصر المسدود الأبواب؟ سنوات وأجهزة الإعلام الوطنية ممنوع اقترابها من الرئيس ومن النائب والوزراء المتنفذين في الدولة، وأصبح الدخول لمكتب الوزير بالبصمة، وفتح السيارة بالبصمة وحوائط سميكة جداً من الجدر العازلة والحراس الأشداء الأقوياء يحولون دون الوزراء والشعب الذي انتخبهم قبل عام وبضعة أشهر من الآن، لكنهم نأوا بأنفسهم عن الجماهير ويتحدثون عن (الحاجة) بالتقسيط.. ويختارون محاورين من الذين يجيدون (الكلام التمام) في حضرة الحكام.. ويبتسم الوزير في وجه محاوره التلفزيوني الأنيق ويهتف الوزير في دواخله (تعيش إنت). سنوات عديدة وأسئلة رؤساء التحرير تتزاحم في مكتب المستشار الصحافي لرئيس الجمهورية!!.. أكثر من ثلاثة أعوام وطلبات بعض رؤساء تحرير الصحف السودانية لإجراء حوار مع الرئيس لا ترفض ويعتذر لطالبيها.. ولا تمت الاستجابة لها وفتح القصر أبوابه لاستقبال رؤساء التحرير والكتاب وكبار المحررين أو صغارهم.. كلهم جديرون بلقاء رئيس بلادهم والحديث إليه بالصراحة والحوار بين الرئيس وأي صحفي هو حوار بين الرئيس والشعب.. لكن العصبة المتنفذة حول الرئيس والنائب ومساعد الرئيس والوزراء.. تطاولت في بنيان سد الدروب وجعلت الوصول لهؤلاء القادة عصياً على السودانيين.. وسهلاً وميسوراً على الأجانب من كل جنس!! كانت الثورة في بواكير شبابها تحترم قادة الإعلام ويفتح الرئيس مكتبه بمجلس الوزراء القديم شرق مستشفى الخرطوم كل أربعاء.. للقاء قادة الأجهزة الإعلامية وكان الحوار جهيراً بين رؤساء وقيادات الأجهزة الإعلامية ورئيس مجلس قيادة الثورة.. حتى أغلق المتنفذون في الحكومة أبواب الرئيس ووضعوه بعيداً عن الأضواء رغم تواضع البشير وتدينه وحبه للناس وعفويته في الحديث، فالبشير قائد سياسي حصيف لا يخشى انزلاقه أمام عدسات كاميرات الإعلام، طليق اللسان بلغة أمه العربية، لبق بالإنجليزية، قامته ليست قصيرة حتى يتم حجبه عن الإعلام.. حضوره الذهني يجعله أرقى خطاباً من عبد الناصر والسادات، والقضايا الشائكة التي واجهت البشير ومحن السياسة من استهدافه بذاته إلى انقسام بلاده لدولتين وكثرة الجروح في جسد السودان تفرض كلمتها، ويفترض أن تجعله حاضراً في واجهات (الميديا).. لكن العصبة المتنفذة من أولي العزم والحسم تبعده عن شعبه، وتنصب سياجاً حديدياً حوله، وبذلك تظلم الرئيس الذي كان أحرى (بالنخبة) المختارة حوله أن تعقد اللقاءات بالمثقفين من كافة الملل والنحل وهي تقبل على سودان جديد ذهب ثلثه القديم كدولة مستقلة، وبقيّ الثلثان، وذات المخاطر التي ذهبت بالثلث القديم تلقي بظلالها على ساحته السياسية، كيف يتبصر الرئيس الدروب المضيئة من الوعرة المظلمة.. يجمع أساتذة الجامعات بعيداً عن التصنيفات المسبقة، ولا يدع وزير التعليم العالي من يحدد أولوية الحديث ومن يمنح الفرصة الأولى.. لا تميز في لقاء الرئيس بأساتذة الجامعات بين د. عطا البطحاني وبين عطا السيد عبد الواحد.. وبين مصطفى إدريس مدير جامعة الخرطوم السابق، ود. محمد الواثق الأديب الذي نعى أم درمان عام 1973م فخرجت تظاهرة نسائية محضة تدين ديوان أم درمان تحتضر.. تظاهرة دون حشد وبطاقات دعوة وسندوتشات و(موية صحة).. فناهضت النساء الديوان قبل السماني الوسيلة الحفيان.. وعند الرئيس سيان اليساري الذي لا يزال يمني النفس بعودة الكرملين.. والإسلامي الذي يهتف (هي لله)!! ومتى يستقبل الرئيس المثقفين من عبد العزيز بركة ساكن وحتى إسحق أحمد فضل الله، ومن خطاب حسن أحمد ويحيى فضل الله حتى علي يس ومثقفي المنطقة الدافئة.. ويلون راشد دياب مجلس الرئيس بريشته، ويغني محمّد سلام (قام اتعزز الليمون عشان بالغنا في ريدو)، وينشد (قيقم) أنشودة النصر المبين، ويصدح محمد الأمين في وجود الرئيس برائعة فضل الله محمد (بدور القلعة) التي كتبها قبل أن يجف عنده نهر الشعر وينضب الحنان في قلب أنهكته متاعب الصحافة وسهرها، وعند أهل الثقافة وحدهم يجد الرئيس الإجابة، هل يبقى الوزير السموأل خلف الله في موقعه الذي من خلاله أبرم الوزير مصالحات غير معلنة ولا مدفوعة تكاليف الديات وجبر الضرر بين الحكومة والمغنيين والموسيقيين.. أم يستعين الرئيس مجدداً بسلطان الفور محمد يوسف عبد الله ويعيد جمع الثقافة والرياضة حتى يقضي الوزير الجديد على الأولى باهتمامه بالثانية، حيث الأسفار والدولار وأشياء أخرى غير مفيدة!! في عهد الجمهورية الثانية ذلك الوصف الهلامي، هل يصغي الرئيس لمحجوب محمد صالح قبل خاله الطيب مصطفى؟.. ويفتح قلبه وبيته لحوار مع نخبة كتاب مثقفين من (الأحداث) الباز وفتحي الضو و(نسوان) الأحداث قبل حوار الذات والحديث مع النفس ومناجاتها.. في الرائد حيث راشد عبد الرحيم وأحمد عبد الله وعمر باسان وتتولى النخبة المختارة التي تدير شأن الإعلام، فتح النوافذ المغلقة مع كبار الكتاب العرب في الصحافة العالمية بدعوة أقلام في قامة عمرو عبد السميع ويوسف خازم وعفاف زين ومحمد بنيس ود. أحمد منصور ويوسف الخال وفهمي هويدي وعبد الوهاب الأفندي ود. يوسف نور عوض، هؤلاء أحق بلقاء الرئيس وإدارة حوار جهير معه من هاني رسلان ود. الهاشمي الحامدي والقائمة المعروفة والمحفوظة في أرشيف القصر منذ حقبة الصادق بخيت حتى أمين حسن عمر، وانتهاءاًً بحقبة عماد سيد أحمد الذي يستحق الترفيع لمنصب مستشار صحافي بمهام سياسية واجتماعية، فالرئيس السادات كان مستشاروه هم المقامات الرفيعة، وكان جعفر نميري يثق في محمد محجوب سليمان.. ولكن الآن أصبح الرئيس عمر البشير بلا مستشار إعلامي وكل يوم يتم تقزيم مهام عماد سيد أحمد حتى تصبح مثقال حبة من خردل وسط العصبة المختارة حتى تغلق أبواب الرئيس بالأسمنت المسلح.. رجل دولة في قامة النائب الأول المرتقب علي عثمان محمد طه بخبرته التي تفوق خبرات كل الوزراء والمستشارين في الحكومة، ظل صامتاً لا يتحدث حتى في القضايا المثيرة للجدل السياسي، وعلي عثمان بخبرته في حكومة مايو كنائب في مجلس الشعب وقيادي في الاتحاد الاشتراكي من المصالحة 1977 وحتى سقوط مايو 1985 ثماني سنوات من الخبرة، تضاف إليها (3) سنوات في مقعد زعيم المعارضة، و(20) عاماً في الإنقاذ صانعاً للأحداث وفاعلاً في أجهزة الدولة (الباطنية) والظاهرة للعيان، السرية والعلنية.. لتبلغ خبرته العملية (31) عاماً لا تضاهيها إلا خبرات رؤساء مثل القذافي ومبارك وعلي عبد الله صالح.. ولكن علي عثمان لا يتحدث للصحف ورؤساء تحرير الصحف إلا في الزيارات الخارجية، فيصغي إلى ملاحظاتهم وبعض القفشات الاجتماعية والأسئلة العابرة، ورغم ثقافته وقدراته الخطابية في الإبانة والحجة، نأى الرجل بنفسه عن معارك الفكر والثقافة وميدان الجدل السياسي الذي كان علي عثمان في الجامعة وفي سنوات المعارضة، فارسه الأول.. لكن السلطة لها مقتضياتها وأحكامها حتى أضحى (علي عثمان) سجيناً في دهاليز الدولة يمضي سحابة يومه يقلب أوراق الإسكان الشعبي والتأمين الصحي والتمويل الأصغر، ويغوص في أوراق التنفيذ اليومي في محاولات لتقديم الأداء وشحذ همم الوزراء، لكن ذلك لا يغني عن الخطاب السياسي ولو كانت الخدمات والرفاهية والعيش الرغد تسد أبواب الاحتجاجات ويعالج الأمراض السياسية، لما تظاهر الليبيون وانتفضوا في وجه سلطة ومملكة معمر القذافي الذي أضفى على بلاده ألقاباً عديدة، ودمغها بالاشتراكية والجماهيرية، وألبسها ثوب العظمة فلم يغنِ عنها انتفاضة الباحثين عن الحريات، وعلي عثمان محمد طه برؤيته الثاقبة واستنارته كرجل دولة تسعفه خبرة طويلة، أكثر حاجة لنصائح الصوفية من الفادنية في شرق النيل حتى أزرق طيبة في طيبة الشيخ عبدالباقي الذي يظل شيخ طريقة يجمع المريدين والأحباب مهما احمرت علاقاته بعرمان وفاقان أموم.. ويظل أحفاد البرعي في الزريبة يضيئون ظلام كردفان.. والشيخ البرناوي في الليري وخلاوى همشكوريب في الشرق عندهم النصيحة والرأي السديد مهما قربت الدولة جماعة عبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم، فإن الأثر الصوفي في نفوس أهل السودان أعمق من أثر التيارات السلفية والجماعات الإسلامية التي تعاظم دورها السياسي وتمدد نفوذها داخل الحكومة وأصبحت قادرة على تمرير أجندتها من بين تحت وفوق طاولات الحكومة في غياب الأخرين.. وكيف لا يتحدث علي عثمان وقد انقسم السودان لدولتين ولم يجد حتى من ينعي الوحدة المبتغاة والتي في سبيلها تعاظمت التضحيات وعلامات الاستفهام تتمدد من القصر حتى شارع المطار.. لماذا صمت علي عثمان لشهور عديدة ووهنت خيوط التلاقي بينه والإعلام، وبالتالي بينه والشعب، فالصورة الصامتة تحير مجلس الوزراء كل يوم خميس، واللقاءات الباردة في القصر لا تجعل الحاكم قريباً من الحكومين.. والحركة الإسلامية التي بلغت السلطة على أكتاف الإعلام آثرت بعد صعودها الإنكفاء على ذاتها وحراسة نفسها بالجنود الشداد الغلاظ، لا الأفكار التي تمشي على سيقان الإصلاح الاجتماعي.. والأمل لا يزال معقوداً على البروفيسور إبراهيم غندور لتغيير الواقع الماثل، لبزوغ فجر جديد في فضاء السياسة والثقافة والإعلام.. ولنا عودة في رمضان وتصوموا وتفطروا على خير..