زرنا أول التسعينيات (لبنان) لمؤتمر شبابي هناك.. وهي إحدى الدول التي يهفو إليها كثير من الناس من أرجاء العالم.. وكثيراً ما كان يقضي بها سوانحه.. الأديب الأريب السياسي الفالق (محمد أحمد محجوب) رحمه الله، ولما كان الظرف شتاء فقد صاحبتنا من (دمشق) إلى هناك وعند دخولنا لمنعطفات (بيروت)، صاحبتنا كاسحات الثلوج.. إذ كانت تقف (أي الثلوج)، حاجزاً بالطرقات ويجد الناس صعوبة لتخطيها.. فينتظرون الكاسحات لتجلي لهم قوارع الطرقات.. فكسانا نحن التعجب من هذا المناخ المتفرد لدينا.. ثم دخلنا (بيروت) وكانت هناك بعض الاعتداءات على استقرار المواطن.. وقد حطمت بعض الدور الشاهقة.. فترى أنت بعض الأسر وهم يوقدون (النيران) ويجلسون حولها يمدون نحوها أكفهم وأيديهم للتدفئة وهم جلوس القرفصاء.. فكم كانوا يشبهون (البدو) عبر الفلوات وإنها لجائحة.. وهي هنا في (بيروت) العاصمة.. ولكننا في السودان تعتورنا دائماً الأمطار الغزيرة والسيول والفيضانات من نيلنا الحبيب.. وأحياناً- كذلك- لا نستطيع أداء الصلاة على الأرض.. بل نؤديها على ظهر السيارة.. إن لم تكن على متن طائرة.. وذلك إما لامتلاء الأرض الواسعة بالماء والأطيان- كما تجد أنت نفسك كأنك بين (الدمازين) و(الكرمك)، أو أنت بين (واشنطن) و(نيويورك) قريباً من (نيوجرسي) ثم أدركتك صلاة الفجر.. ولا يسمح الثلج بالنزول والصلاة على الأرض.. فتصلي كيف تيسر و(يسروا ولا تعسروا) كما ينهج المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فنحن اليوم أهل دربة وخبرة في الجوائح والملمات.. فقد جاءتنا (طوفانات) كثيرة.. وجاءتنا ندرة في الطعام تصل لدرجة المجاعة كما عايشنا (1983م) ومجاهدات (لبابه الفضل) وأخواتها في (المويلح) بأم درمان والقرى والمدن الأخرى.. وعايشنا أيضاً الغزو والضرب بالقذائف مستهدفين الإذاعة القومية والتلفزيون.. قادمين من سلطان (ليبيا) وقتها فلم تنفجر.. وحجبت عنا بعض الدول (الواردات)، بل ذهبت لأبعد من ذلك.. فدمرت مصنع (الدواء) بكافوري فتركناه وأبقيناه- حتى اليوم- شاهداً على الاعتداء الآثم.. وبذاكرتكم أيها الأعزاء هوامش مكتظة بالابتلاءات ولكن الله ناصرنا وهم لا ناصر لهم.. وتذكرون كوكبة (1986م) من الخريجين والمفكرين بالجمعية التأسيسية هي صاحبة المبادرات- بعون الله- والارتكازات وهي تقول (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).. هذا كله في أوجه وأوقات.. وحين قال المجاهد «صلى الله عليه وسلم»: (عدنا من الجهاد الأصغر للجهاد الأكبر)، إنما المتجلي من هذه الحكمة هو أننا كنا في مواجهات جهادية على ساحات النداء والفداء وهي مواقف لا تخطئها الأبصار.. ولكن حين رجعنا لحياتنا وحياة الناس.. وصرنا نواجه تعرجات وتداخلات ومشاكسات الآخرين ومغالبة هوى النفس ومراقبة العالم من حولنا، كان هذا هو (الجهاد) والمغالبة الأصعب.. أما إن توفرت مطلوبات الحياة في نواحيها العديدة فإن المتربصين لا يتركون (الفتل) ولا يترددون في (الافتعالات) وتسخير الإلتواءات والظروف.. و(السارح بيك ما بودرك).. وفي ذات السياق تطل عليكم الآيات المحكمات وأنتم من القرى الكبرى التي تحتويها معاني الكتاب المنزل: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).. فإن نظرنا لظرف من الطواريء وما يعترينا من صعاب سياسية واقتصادية وأمنية ودولية هو يقع أيضاً في دائرة الآية الكريمة: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.. وبشر الصابرين..)، وإن ثورة العالم من حولنا هي أيضاً مهدد أمني وسياسي.. وغير ذلك.. وإن صيغت في حاشية (إن الملأ يأتمرون بك..).. فهذا لفت للانتباه أن تنظر في الذي يحوط بك وتضع له قواعد الترصد والتعرف لكي تحسن التصرف لتفض من تشابك منها.. فإنك لا تعاني (الندرة) وإنما تواجه (الدولار) وقلة (الإيثار)- (والذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).. ولكنهم يأتمرون بك (ليقلعوك) أو (يوهنوك) أو (يبهتوك)، فإن كنت مع الناس تعرفت على دبيبهم وواقع المعضلات لتوفر لها الحلول قبل مواجهة سهام الآخرين.. وسماعك لأهل الفكرة والخبرة ودوائر (اقتصادك) ترسم سلالم الاستدراك وبتر الجراثيم اللصيقة.. وحشد طاقتك من الحكماء ليجيدوا خطة الإدراك والاستدراك هذه.. فهذا الهرج في (أسعار) الضروريات للمواطن السوداني الذي يبهره الناتج الوطني وتنوعه.. ولكنه (أي المواطن)، يدهشه (الغلاء) الذي يعانيه.. والدولة بهياكلها تنظر وترى وتسمع.. وأخذ يتساءل مع نفسه وفي جماعات كلما خرج من (مساجده) أو التفت لأغراضه هل هذا (ابتلاء) أم (غلاء) أم (كلاهما) معاً.. فالوفرة عندنا في كل (صنف) محلي أو عابر إلينا من مصادر أخرى.. فلماذا كل هذا.. ونجيب من واقع الحال.. ونسأل كما سأل (عمر بن الخطاب- أمير المؤمنين).. سأل (حاكم) إحدى (العمالات)- أي الولايات- لماذا تختفي أنت عن جمهورك يوماً كاملاً.. فقال (الحاكم)- إن لي جلباباً واحداً فأختفي لأغسله وأنظفه.. ثم أرتبه لأخرج للجمهور- فكانت إجابة على شكوى جماهير ذلك (الحاكم).. أما نحن اليوم.. فنقول: يا (عمر) لقد تجاوزت الأسعار حدودها وقد رأيناك ووجدناك بيننا حين داهمت السيارة (الفتيات) العابرات بسرعتها عند مدخل جسر (كوبر) ببحري، فوقفت مع الجمهور حتى صنعت (الحواجز) الكابحة للإسراع وطيش النظر.. ثم ودعك الجمهور هاتفاً (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).. فهم اليوم بك يتجهون نحو (الهدهد) الاقتصادي و(علي محمود) ابن البادية غرب قصر النيل.. ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.. وإنما الدين النصيحة.. والله أكبر..