ü توجّه التونسيون أمس بكثافة صوب صناديق الاقتراع من أجل انتخاب «المجلس التأسيسي»، أو «الجمعية التأسيسية» في أدبيات الديموقراطية السودانية، بدأ عليهم الارتياح الممزوج بالفرح والحماس والأمل، «فلمثل هذا اليوم كانوا يعملون» ولمثل هذه «اللحظة التاريخية» طال انتظارهم حتى هرم بعضهم كما قال قائلهم. وانفلت عقال الحرية فتعددت الأحزاب حتى بلغت (110) أحزاب تتنافس جميعها للتعبير عن نفسها من داخل قبة البرلمان، وبديهي أن نحو مائة حزب ستخرج من حلبة المنافسة وإن عشرة منها أو نحو ذلك هي من ستجد لها مقاعد في البرلمان المنتظر. ü ومثلما تقدّمت تونس، هذا البلد العربي الأفريقي الصغير المُطل على شواطيء البحر المتوسط، الركب في ثورات الربيع العربي، ها هي اليوم تتقدمه في قطف ثمار وأزاهير هذا الربيع بعقد أول انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، ولذلك أجمع المراقبون على أنها «انتخابات تاريخية» تعقب تحول ديمقراطي أنجزته الثورة الشعبية، وبالتالي فهي تتقدم بلدان الربيع العربي بل وبلدان المنطقة في ممارسة الديمقراطية مثلما تقدمتها في ممارسة الثورة التي أطاحت بنظام استبدادي فاسد. ü ليست هي المرة الأولى طبعاً التي يتعرف فيها التونسيون على صناديق الاقتراع أو يجربوا عملية الانتخاب والتصويت، فقد فعلوا ذلك مرات عديدة منذ الاستقلال عام 1956 - نفس عام استقلال السودان- ولكنها لم تكن انتخابات حرة أو نزيهة بالمواصفات الدولية المعهودة، بل لقد منع عدد من أحزاب المعارضة من المشاركة، وجرت كلها في مناخات غير ديموقراطية، سواء في أجواء «أبوية» الحبيب بورقيبة -رحمه الله- أو في ظل «دكتاتورية» زين العابدين بن علي، الذي لابد أنه سيتابع الحدث من منفاه الاختياري -الذي فر إليه بجلده- في المملكة العربية السعودية. فالديمقراطية، في ظل حكم الرجلين الذي استهلك أكثر من نصف قرن من عمر تونس و«التوانسة» لم تكن سوى وهم لتكريس ديمومة الحكم والتحكّم، بالسلطة والثروة، في أيدي قلة من المحظوظين كانت ديمقراطية وهمية، في ظل سيطرة الحزب الواحد والجماعة المُتنفّذة. ü الانتخابات في تونس ستجري وفق نظام التمثيل النسبي، حيث جرى تقسيم البلاد إلى (33) دائرة انتخابية، (27) دائرة في تونس و(6) دوائر للتونسيين في الخارج، والحد الأقصى الذي يمكن التنافس عليه في كل دائرة (10) مقاعد من إجمالي مقاعد البرلمان البالغة (217). وفي كل دائرة انتخابية تطرح الأحزاب قائمة مرشحين، ويصوت الناخبون للقائمة التي يفضلونها وليس للمرشحين. وأي قائمة تتجاوز (60) ألف صوت تحصل على مقعد في البرلمان أو الجمعية التأسيسية، وإذا ما تبقت أي مقاعد في دائرة انتخابية تمنح للقائمة صاحبة المرتبة الثانية في الأصوات. وبالأمس افتتحت نحو 7 آلاف مركز اقتراع منذ السابعة صباحاً وستغلق عند السابعة مساء، ومن المتوقع أن تعلن النتائج في وقت متأخر مساء اليوم (الاثنين). ü استطلاعات الرأي العام تشير الى أن حزب النهضة الإسلامي المعتدل، بزعامة راشد الغنّوشي، هو صاحب الحظ الأوفر في الفوز بأكثر المقاعد في الجمعية التأسيسية، بالرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كان سيحصل على أصوات كافية تضمن له الأغلبية، وإذا لم يحدث هذا فسيحتاج إلى تكوين تحالفات مع أحزاب أخرى، وهو ما بدأ بالفعل بحسب تصريحات منسوبة للغنوشي، الذي نأى بنفسه عن الترشح للانتخابات واكتفى بدور الرعاية والتوجيه لحزب النهضة، وبالتالي فهو ليس راغب في تسنّم أي منصب لا الآن ولا في المستقبل كما أبلغ أخيراً قناة «دريم-2» المصرية، وهي حالة فريدة لم نشهد لها مثيلاً إلا في حالة الإمام الخميني في أعقاب الثورة الإيرانية، وإن اختلفت من حيث المقاصد والدور الذي لعبه أو يمكن أن يلعبه أي من الرجلين فالخميني -المرشد العام للثورة الإيرانية- كان يمسك بجميع الخيوط ويحرك الشخوص والممثلين على المسرح السياسي الإيراني ويمثل المرجع الأخير في نظام تحكمي هو «ولاية الفقيه»، أما الغنوشي فهو زعيم حزب سياسي بين جملة أحزاب في نظام ديمقراطي ويختلف الناس في ذلك الحزب أو يتفقوا حول اتخاذ القرار، وشهد «النهضة» كحزب بعض الانقسامات والاختلافات وبعض ممن كانوا فيه حتى قبل الثورة ترشح بعضهم الآن ضمن قوائم المستقلين. ü استوقفتني منذ يومين حلقة حوار أجراه مقدم البرامج المشهور حافظ الميرازي من تونس ضمن برنامجه «بتوقيت القاهرة» استضاف فيه رئيس الوزراء التونسي الباجي السيسي والأستاذ راشد الغنوشي كل على حده. في ذلك الحوار الاستثنائي أفصح راشد الغنوشي وقبل يومين فقط عن آراء لم أجد تعبيراً يناسبها أكثر مما طالعتموه في العنوان أعلاه «الغنوشي إسلامي من طراز جديد»، والجديد كثير في تلك الإفادات التي أدلى بها الغنوشي أمام الميرازي ومن على شاشة كثيفة المشاهدة كشاشة «دريم-2». ü الغنوشي اشتهر بين رموز العمل الإسلامي العربي والدولي بأنه «زعيم إسلامي معتدل» لا يميل إلى التطرف أو التكفير، ولكنه هذه المرة، وفي هذه اللحظة الحاسمة التي يخوض فيها حزبه -النهضة- انتخابات هي الأولى من نوعها بدا في ثوب «إسلامي من طراز جديد» وليس معتدلاً فحسب. فأكد في ذلك الحوار على «الحرية» التي اعتبرها أصلاً وركناً ركيناً في النهج الإسلامي الحق، وأنه لا يحق لأحد -كائن من كان- حاكماً أو عالماً أو واعظاً، أن يفرض أو يجبر الناس على شيء لا يقبلونه ولا يختارونه من تلقاء أنفسهم، وليس من حق الدولة أو «السلطان» إجبار النّاس على زي معين -البرقع أو الحجاب مثلاً- أو أن يقرر نيابة عنهم ماذا يأكلون أو ماذا يشربون فكل ذلك القرار فيه متروك للناس والمجتمع. وعندما سأله الميرازي عن ارتداء النساء ل«البكيني» في شواطيء تونس السياحية وافق الغنوشي على تلك الممارسة باعتبارها من عادات النّاس واختياراتهم. ü وعن دور المرأة في المجتمع وفي إطار الحراك السياسي لحزبه، أوضح الغنوشي أنهم رشحوا امرأة غير محجبة على رأس قائمتهم في أكبر الدوائر الانتخابية وهي تونس العاصمة، وقال إننا بذلك نتحدى الأحزاب التي تدّعي الليبرالية والحداثة بأن تسمح بترشيح «امرأة محجبة» في دوائرهم، ولنؤكد لهم أننا أحرص على حرية النّاس وحقهم في الاختيار دونما تدخل. وأكد الغنوشي أن الدعوة للإسلام وللتدين تكون بضرب المثال وبالقدوة وبالتربية وليست بالقهر والجبر.. «لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر». وبدا الغنوشي في ذلك يضارع رجب طيب أردوغان في حزبه «العدالة والتنمية» الذي قبل بالعلمانية أوالديمقراطية المفتوحة في تركيا كمرجعية دستورية للدولة، طالما هي توفر الحرية والعدالة والمساواة لكل أطياف المجتمع السياسية دونما حجر. وبذلك طمأن الغنوشي التونسيين بأنهم لن يقعوا في قبضة حكم متسلط أو متجبر باسم الدين إذا ما فازت «النهضة» بالأغلبية في الجمعية التأسيسية المقبلة المناط بها وضع الدستور الدائم الجديد. فالغنوشي يعِّول في نهاية المطاف -كما قال- على أن أهل تونس مسلمون، والمجتمع المسلم لن يفرط في دينه. فالله أنزل الذكر وهو الحافظ له، وخيّر الناس بين الكفر والإيمان وأهدى الإنسان النجدين ليقرر كيف يريد أن يكون وأي «النجدين» أي الطريقين يختار.