بدا واضحاً الآن أن حزب «النهضة» التونسي الاسلامي قد تقدم جميع القوى السياسية المشاركة في الانتخابات بفارق كبير، وإن لم يتمكن من إحراز الأغلبية المطلقة في مقاعد المجلس التأسيسي (البرلمان) المكلف بإعداد الدستور الدائم وقيادة المرحلة الانتقالية التي لم يتجاوز عمرها العام، بينما مُنى واحد من أهمد الأحزاب التونسية هو الحزب الديمقراطي التقدمي بهزيمة ماحقة، وكان المراقبون واستطلاعات الرأي تضعه في المقام الثاني بعد النهضة في تلك الانتخابات التي ما زالت نتائجها النهائية لم تعلن بعد، ليحل محله حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بقيادة المنصف المرزوقي وليلية حزب التكتل الوطني من أجل الديمقراطية بقيادة مصطفى جعفر ثم حركة «العريضة الديمقراطية». فحزب النهضة حاز بحسب النتائج الأولوية أكثر من 40% من مجمل مقاعد المجلس. حزب النهضة وهو حزب من جملة أحزاب الاسلام السياسي التي عرفتها المنطقة العربية والاسلامية على مدى عقود، وخاض كفاحاً مريراً ومكلفاً ضمن أحزاب أخرى تونسية، ضد نظام بن علي، ومن قبل ضد نظام الحبيب بورقيبه، كافأه الشعب التونسي في الانتخابات الديمقراطية الحرة والنزيهة- بشهادة المراقبين الدوليين والعرب- بأن بوأه الموقع الأول وأهداه أكثر الأصوات في الانتخابات التي جرت وفق نظام التمثيل النسبي. لكن هذه النتيجة وذلك التميز للنهضة لم يكن فقط بسبب ذلك الكفاح والنضال الذي شاركه فيه آخرون بأنصبة متفاوتة، ولكن أيضاً بسبب خطابه المعتدل والمنفتح وسلوكه السياسي الذي غادر محطة التشدد والتطرف التي اشتهر بها خطاب الحركات الإسلامية وسلوكها وممارساتها العنيفة ضد الخصوم السياسيين. تأكد لي هذا الخطاب المعتدل والبرنامج المتوازن والمنفتح الذي دخلت على أساسه النهضة الانتخابات من خلال ندوة على قناة الجزيرة قادتها المذيعة النابهة التونسية ليلى الشايب والتي انتقلت لتونس لتغطية الانتخابات. استضافت «الجزيرة» وليلى في تلك الندوة حمادي الجبالي الأمين العام لحزب حركة النهضة، وأحمد إبراهيم زعيم «القطب الديمقراطي الحداثي» الذي منى هو الآخر بهزيمة كبيرة في الانتخابات، والمُنصف المرزوقي رئيس المؤتمر من أجل الجمهورية. الجبالي أكد من خلال أفاداته في تلك الندوة على نهج النهضة المعتدل والبعيد كل البعد عن روح التفرد والإقصاء وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وقال إن الشعب التونسي هو شعب ذكي ومتفهم لواقعه، وكذلك حركة النهضة، والتونسيون قاموا بثورتهم من أجل الحرية والكرامة وكانت ثورة حضارية بمعنى الكلمة والنهضة أيضاًَ تتفهم مجتمعها وتتجاوب معه ومع تطلعاته، وهي لا تعتبر النصر الذي احرزته في الانتخابات نصراً لها فقط انما نصر للمستقبل الديمقراطي. بينما أكد أحمد إبراهيم- برغم هزيمة حزبه- أن تونس تتقدم وهي بهذه الانتخابات بدأت في بناء مستقبلها الديمقراطي، وقلل من أهمية فوزهم أو فشلهم في هذه المرحلة إذا ما سار على الطريق المفضي إلى التأسيس لديمقراطية حقة ومستدامة تضمن التداول السلمي للسلطة. في الوقت ذاته أكد المرزوقي، الذي جاء حزبه ثانياً في نتيجة الأنتخابات، أن الشعب التونسي رفض التطرف في الاتجاهين الاسلامي والعلماني، وذلك ينسجم مع طبيعته المعتدلة وانفتاحه الحضاري وهذا هو السر الذي يكمن وراء النتائج الانتخابية التي جاءت على هذا النحو، وقال إنهم مع الديمقراطية والتمسك في الوقت ذاته بالثوابت الاجتماعية وهوية الشعب ومقدساته. مراقبون كثر رأوا في فوز «النهضة»- كحركة تنتمي للاسلام السياسي- امتحاناً حقيقياً، فإما أن تذهب في برنامج وخطابها المعلنين المناديين بالدولة الديمقراطية المدنية والالتزام بمبادئها المتصلة بحقوق الانسان وحقوق المرأة التونسية، تلك المُعبر عنها في مدونة الأحوال الشخصية، وبما أعلنه رئيسها راشد الغنوشي مراراً، وآخرها في تلك الندوة على «قناة دريم» والتي علقنا عليها في إضاءة سابقة، وأكد فيها أنه ليس من حق الدولة أن تتدخل في ما يأكل الناس أو ما يشربون أو ما يلبسون، وأن الناس أحرار فيما يختارون من مواقف وسياسات وعقائد، إما أن تذهب الحركة في هذا البرنامج والخطاب إلى النهاية وتُلحق القول بالعمل، أو تنكص عنه أو تحاول الالتفاف عليه عندما تصل إلى الحكم والمشاركة فيه، خصوصاً عند لحظة كتابة الدستور، وعندها سيصح عليها قول كارهوها وخصومها بأنها تمارس «ازدواجية الخطاب». حتى الآن، ليس هناك ما يشير إلى تهمة الإزدواجية هذه، والمراقب لكتابات الغنوشي ومواقفه حتى قبل الثورة التونسية والانتخابات الأخيرة، يجد فيها كثيراً من الاعتدال والانفتاح والاجتهاد الحداثي، والاقتراب أكثر من فكرة الدولة المدنية والحرية التي هي أصل في الاسلام كما يقول. واعتدال الغنوشي وانفتاح حركته- عندي- هو استجابة للواقع، كما قال الجبالي، واقع الشعب التونسي وإرثه المدني والحداثي الذي فرضه موقعه وتطوره الخاص وطبيعة اقتصاده القائم على السياحة والاستثمارات الأجنبية، في بلد شحيح الموارد بالمقارنة مع عدد سكانه، كما أن الممارسة السياسية وحتى الكفاح من أجل الاستقلال كان كفاحاً مدنياً ولم يجر عبر مواجهات عسكرية وحروب تحرير كما كان عليه الحال بالنسبة لجارته الشرقية «ليبيا» أو جارته الغربية«الجزائر». كما كان لحكم الحبيب بورقيبه، وحتى زين العابدين بن علي دوراً في التأسيس لثقافة الحداثة بالرغم من انفراد حزبهما بالحكم وسيطرته على موارد البلاد ومقدراتها، الأمر الذي دفع التونسيين للثورة عليه. وبما أن الفترة الانتقالية هي عام واحد، يتم خلالها كتابة الدستور ومواجهة الاشكالات والانشغالات الملحة وفي مقدمتها مواجهة البطالة التي تضرب الشباب بالإضافة إلى الاهتمام بقضايا المناطق المحرومة والمهمشة، فإن حركة النهضة- كما أكدت مراراً- لا تريد أن تنفرد وحدها بهذه المهام، لا كتابة الدستور ولا مواجهة القضايا الملحة، فكل ذلك يتطلب جهداً جماعياً ومشاركة واسعة لكل أطياف المجتمع السياسية والمدنية والشخصيات العامة، ولذلك سعت وتسعى لحشد أوسع التحالفات الممكنة، وتلك هي السمة الأبرز لانتخابات تونس التي حققت الوفاق الوطني عبر صناديق الإقتراع.