توصيف الدكتور محمد خير الزبير، محافظ البنك المركزي، للحالة التي تمر بها بلادنا، هو توصيف خبير وعارف، وقد إختصر الطريق في الوصول إلى سبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا، عندما قال في الحوار الذي أجرته معه الأستاذة سمية سيد، في صحيفة «السوداني» قبل يومين، إن تركيز الحكومة على بناء الطرق والكهرباء والسدود، دون القطاعات الانتاجية المهمة مثل الزراعة والصناعة، كان أحد أسباب الخلل الاقتصادي. ولمس الدكتور محمد خير، لب المشكلة، وضغط على الجرح الناتج عن التوسع في الصرف الجاري للحكومة من مواردها، حيث بدأت تستلف من البنك المركزي، ومن الجمهور، مع إشارة الدكتور محمد خير، إلى أن الخلل الاقتصادي بدأ قبل العام 2008م، إذ اضطرت الحكومة لزيادة أسعار السكر والوقود عام 2006م، رغم أن مواردها آنذاك كانت كبيرة. لا نستطيع أن نصف حديث الدكتور محمد خير الزبير بأكثر أو أقل من أنه حديث شجاع، وتشخيص حقيقي للأزمة التي نعيشها، وهي تدخل غير أهل الاختصاص، في الاختصاص، وبمعنى أقرب، تدخل السياسيين في شأن هو من إختصاص الخبراء.. وهكذا- كما يعلم الحاكم والمحكوم- يبدأ تآكل الدولة، ثم إنهيار البنيات، بحيث لا يصبح للبناء أعالٍ بعد أن تتساوى الأعالي مع الأسافل في مستوى تراب السطح. كتبنا من قبل، وظللنا نكتب عن ضرورة أن تكون هناك سياسات إقتصادية واضحة، محددة الأهداف، يضعها الخبراء والمختصون، ونحن نعلم إن بلادنا فيها منهم الكثير، لكن إحتكار التخطيط والتفكير هو السبب في عدم تطوير الأداء، وهو السبب في التدهور ليصبح بديلاً للتطور، وفي التخلف ليصبح بديلاً للتقدم. لا نريد الدخول في تفاصيل التفاصيل، ولكننا سنتخذ من سد مروي نموذجاً لما ذهب إليه الدكتور محمد خير الرجل الاقتصادي الخبير، الذي تولى مسؤوليات وزارة المالية لأشهر قليلة خلال السنوات الماضية.. فتكلفة إنشاء السد تقترب من الثلاثة مليارات دولار أمريكي، وهي تكلفة عالية مقارنة بالعائد الاقتصادي من إنشاء مشروع لانتاج الكهرباء أو لزيادة الرقعة الزراعية.. كيف؟ إنتاج الكهرباء في أفضل الحالات لن يتجاوز الألف ومائتي ميغاواط، وهناك تناقص في الانتاج خلال أشهر الصيف، أو في أوقات أخرى، في حين أن انتاج محطة غازية واحدة لانتاج الكهرباء، مثل محطة «كوستي» أو «الفولة» يبلغ خمسمائة ميغاواط، بتكلفة لن تتعدى المليون دولار بأية حالٍ من الأحوال حسبما نعرف، أو حسبما يقول بعض الخبراء. ونضرب مثلاً بانتاج الكهرباء من السد العالي، في مصر، إذ كان ينتج قرابة الثلاثة آلاف ميغاواط، تناقصت حتى بلغت الألفين، بينما إنتاج مصر الإجمالي من الكهرباء يتجاوز الخمسة وعشرين ألف ميغاواط، منها ما نسبته (82%) يتم انتاجه عن طريق المحطات الغازية، الأقل تكلفة، والأطول عمراً، والأسهل صيانة ومتابعة، مقارنة بالسدود. نرى الآن أننا ننتج كهرباء عالية التكلفة، ويتحمل المواطن عبء سداد مديونيات الدولة تجاه البنوك، وصناديق التمويل وغيرها لسنوات طويلة، وذلك بالقطع يقودنا إلى سؤال مشروع، حول الجدوى الاقتصادية من إنشاء مشروع عالي التكلفة، لا يمثل عائده إضافة يمكن أن تحدث تحولاً كبيراً وملموساً في البلاد. ثم سؤال مشروع آخر.. وهو ما حجم الأراضي الزراعية التي سيضيفها مثل هذا المشروع، وهل كان قيام السد أولوية، أم كانت هناك أولويات أخرى أكثر أهمية وأشد ضرورة، مثل تعلية خزان الروصيرص مثلاً. ثم سؤال ثالث، مشروع ومهم.. عن اللجنة التي أفتت بضرورة وأهمية المشروع، وهل كانت تضم أهل الخبرة والاختصاص، أم ضمت من ينظرون لكل الأمور بمنظار السياسة الوردي، الذي لن يغير لون الواقع، بقدر ما يلون عين السياسي. حسناً فعل الدكتور محمد خير الزبير.. هذا الرجل الشجاع بفتحه لأحد أخطر الملفات الاقتصادية، في بلادنا، ونسأل الله أن يظل في موقعه بحيث لا تنوشه الأيدي القوية التي تطيح بالحقيقة، وبالداعين لها.