تناولنا في مقال سابق ذات الموضوع وبذات العنوان (أزمة الحكم في ولاية النيل الأزرق)، وتم نشره في صحيفة آخر لحظة الغراء في عددها الصادر يوم الأحد العشرين من نوفمبر، وكان لابد من تناول الشق الآخر من الأزمة والذي تسببت فيه حكومة الحركة الشعبية في الولاية، على الرغم من أن قادتها من أبناء الولاية كانت دعواهم إلى الدخول في الحركة التهميش والظلم ولكنهم جاءوا بظلم أكبر وتهميش زاد التهميش تهميشاً، فقد حكم السيد مالك عقار الولاية لفترتين، الأولى منهما بالتعيين حسب اتفاقية السلام الشامل التي قسمت فترة حكم الولاية بعد التوقيع على الاتفاقية وإعلان قيام دولة جنوب السودان (2005-2011) بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ثم حكم الولاية والياً بالانتخاب بفوزه بالمنصب في انتخابات أبريل 2010م على منافسه مرشح المؤتمر الوطني، وكانت أنظار شعب الولاية تتوقع الكثير من السيد مالك، إلا أنه وبطريقة حكمه للولاية خذلهم خذلاناً مبيناً، وذلك بتوطيد سلطانه، وتنمية ثروته، وانحيازه إلى أهل قبيلته الأنقسنا دون سائر القبائل الأخرى، فكانت فرصهم في شغل المناصب اتحادياً وولائياً أكبر سواء بكفاءة أو بدونها فذلك لا يهم، بل المهم هو الانتماء لقبيلة الأنقسنا، ومثال على ذلك تعيينه لأحد حراس ديوان الزكاة في الولاية نائباً لمدير عام وزارة الشباب والرياضة، وهذا المثال ليس للتقليل من الوظيفة التي كان يشغلها، بل لتوضيح أن قدراته لم تكن مناسبة لمنصب نائب المدير العام لوزارة، ومثال آخر هو اقتراح السيد مالك إنشاء صندوق لإعادة تعمير ولتنمية الولاية، وهو يعرف أن إنشاء هذه الصناديق ليس من اختصاصات السادة الولاة، فذلك شأن اتحادي، وفي الحكومة الاتحادية من اختصاصات رئيس الجمهورية، والشاهد في هذا الاقتراح هو تسمية أحد أبناء قبيلة الأنقسنا رئيساً للصندوق، وكأن موقعه في الهيئة التشريعية في البلاد لم يكن كافياً، وكأن حواء الولاية لم تنجب غيرهم، وبالطبع فإن رئاسة الجمهورية لم تعطِ الاقتراح أذناً صاغية وخيراً فعلت، ونسكت عن كثير. توقعت جماهير النيل الأزرق أن تحدث حكومة الحركة الشعبية في الولاية نقلة إلى الأحسن، وتأتي بخطط وبرامج تنموية وتكثف من برامج إعادة التأهيل وإعمار ما دمرته الحرب، وأن تدرب أبناء الولاية، وتسعى في حل مشاكل الشباب والفاقد التربوي، إلا أن كوادرها فعلت عكس ما كان متوقعاً منها، فأفسدت، وانشغلت في ذاتها وفي بناء دور سكنها وتأثيتها، وامتلاك السيارات من طراز تايوتا دبل كابين، وفي ممارسة القهر واضطهاد المواطنين، وسلكت ذات طريق المؤتمر الوطني في إقصاء دور أبناء الولاية المتعلمين، وهم الذين كانوا ينتظرون غير ذلك من الحركة الشعبية بحكم ما كانت ترفع من شعارات، ومارست الحركة الشعبية الحكم في الولاية بطريقة أشبه بنظام الحكم العسكري، وكان ذلك واضحاً في محلية الكرمك وفي محلية باو موطن الأنقسنا، وقد تولى حكمها (محلية باو)، واحد من أهلها في رتبة الملازم أول ولكن في جيش الحركة، كان معلناً في المحكمة الشعبية في باو. ولاشك أنه كان يشعر بالزهو والاعتزاز بالنفس، فهو في منصب أعلى من درجته وعمره وبما فيه من مظاهر السيادة- سيارة وحرس وعلم المحلية وسكن بتأمين، وعضوية مجلس وزارة الولاية، ورئاسة لجنة أمن المحلية.. وهكذا، ثم وافق السيد مالك على استمرار مدير عام وزارة المالية في منصب الأمين العام لمجلس التخطيط الإستراتيجي.. منصبان مهمان لشخص واحد وكأن أبناء الولاية ليس فيهم من يقوم بالمهمة وهو المزكى للمنصبين من المؤتمر الوطني، ويجد كل من يرتكب جريمة حتى ولو جنائية تصل مرحلة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.. من منسوبي الحركة الشعبية، يجد الحماية من الفريق مالك عقار فلا يتم القبض عليه بواسطة الشرطة وبالتالي يفلت المجرم من العقاب، بل يكافأ بالترقي أو بالتعيين في منصب رفيع. ومن النساء من كانت لهن حظوة عند السيد الوالي مالك عقار، فشغلن مناصب أبعد من قدراتهن كبعد السماء عن الأرض وخير مثال لذلك من شغلت منصب وزيرة الصحة والبون شاسع بينها وبين الذين يعملون في المجال الطبي من مستشارين في الجراحة، وأمراض النساء والتوليد، والباطنية، والأنف والأذن والحنجرة، وأطباء المعامل، والموجات الصوتية، وطب الأطفال وغيرها من المجالات، وهي ذات قدرات محدودة جداً، فإن كان هذا حالها مع العاملين في الوزارة التي تتولى زمام أمرها، فكيف لها بالمجتمع الخارجي وفي ذات المجال، وتجدر الإشارة إلى أن الترفيع من الدرجات الدنيا إلى العليا كان يتم حسب الهوى، وعكس قوانين ولوائح الخدمة المدنية، والتعيين في غير المناصب الدستورية يتم حتى من خارج الولاية في درجات المستشارين بالتعاقد، وما تعيين السيد التوم هجو ببعيد عن الذاكرة، فهو من ولاية سنار ومن النشطين في الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، والذي وجد نفسه في وضع لا يحسده عليه أحد عندما اشتعلت الحرب في الأول من سبتمبر فذهب مع مالك عقار، وغيره كثر، ومنهم من لا يعرف إلا القليل عن إمكانات الولاية من الثروة الحيوانية والغابية، فكتب مذكرة اقتصادية قال فيها إن غابات الولاية تكفي لصنع أثاثات تغطي الاستهلاك الداخلي للسودان وتمنع الاستيراد من الصين وماليزيا وغيرها من الدول، ومن جلود الثروة الحيوانية في الولاية ما يكفي حاجة البلاد لصناعة الأحذية والشنط بأنواعها والملابس الواقية من البرد، بينما الأثاثات تتم صناعتها من أنواع بعينها وهذه قليلة ونادرة، فإذا تم قطعها فلن توفر اكتفاء الولاية الذاتي ناهيك عن السودان كله، وكذا الثروة الحيوانية، فإن جلودها لا تغطي حاجة الولاية من الأحذية، وفي هذه النظرية دعوة للتصحر ولانقراض الأنعام في الولاية، وهو مستشار الوالي للشؤون الاقتصادية بالتعاقد. لقد حكم السيد مالك الولاية بقبضة قوية فيها انفراد بالسلطة، فعندما يكون موجوداً في العاصمة الدمازين تنتعش دور الحكومة وتحس فيها بحيوية العمل، وأن دولابه يسير، ولكن عند سفره وغيابه تخبو الحركة وتنوم مؤسسات الدولة، وتسكن الأمانة العامة للحكومة إلا من موظفيها الذين يبقون في مكاتبهم تنفيذاً واحتراماً للساعات المقررة للعمل حتى ولو قضوها بدون عمل، ومن المؤسف أن بقاء السيد مالك في الولاية لخمسة أيام متتالية نادر جداً، وهي أيام العمل الأسبوعية، فعطلة نهاية الأسبوع يوما الجمعة والسبت كما هو معروف، وغض الطرف عن معتمد محلية أدار شؤون المحلية من الدمازين، فلا يذهب إلى مقر حكومة المحلية إلا في المناسبات القومية، لأن المعتمد من المؤتمر الوطني ولم يطلب الوطني إعفاءه، وقيادة الوطني تعرف ذلك والمتضرر هو إنسان تلك المحلية الذي يتكبد المشاق من قريته إلى الدمازين للبحث عن المعتمد لقضاء حوائجه، وربما أدار بعض شؤونها عبر رسائل الهاتف النقال كما كان يفعل السيد الوالي مالك نفسه. لم تشهد الولاية منذ تأسيسها حكماً راشداً أبداً، فلا ورشة عمل ناقشت أوضاعها، ولا ندوات للتحدث عن مشاكلها واقتراح الحلول بأن توضع موضع التنفيذ أولاً.. وكانت فرص الحركة الشعبية أكبر للاستفادة من المتعلمين والمختصين في الولاية ما دامت دوائر المؤتمر الوطني ظلت مشغولة، ولكن الحركة عمقت الجفوة، وجعلت مناصب الولاية مكافأة للذين كانوا في الغابة بغض النظر عن المستوى، فالذي مثلاً كان رقيباً في يوم من الأيام في قوات الشعب المسلحة، صار في جيش الحركة عميداً يقفل له الشارع أمام منزله ويمنع مرور المواطنين بعد الساعة الثامنة مساء، ويذهب صاحب الطبلية في الطرف الآخر من الشارع المقابل للمنزل إلى بيته، ومن طرائف المؤتمر الوطني أنه قام بتدليع رقيب سابق في الاستخبارات وفي قوات الشعب المسلحة لمجرد أنه تمرد فجاءت به معتمداً ثم وزيراً ثم وزيراً ولائياً وعضواً في مجلس الحزب القيادي وفي شورى الحزب، وأخيراً ترفع إلى منصب مستشار والي الخرطوم، وعند نشوب الحرب في الولاية في الأول من سبتمبر انقلب الرجل على الوطني وذهب مقاتلاً مع مالك عقار.. مالكم كيف تحكمون!!.. لقد ذهب السيد مالك ونرصد أزمة الحكم في عهده للتاريخ وربما لتجنب السوالب، ونختم بالاقتباس التالي: فقد كتب السيد الصادق الرزيقي في عمود (أما قبل) تحت عنوان الظاهرة الخطيرة في صحيفة الانتباهة الصادرة في 16 نوفمبر تحت فقرة (خلل ما): ماذا لو حاول السيد والي الخرطوم وهو يعلن عن حكومته، تمثيل مناطق شرق السودان وسكانها بوزير أو معتمد في عاصمة الولاية، وهذا هو المفروض (مقتبس).. وقد نعود لنقترح الحل.. إلى لقاء