عندما اقارن بين مصر التى عشت فى رحابها فى أواخر عقد التسعينات ومصر التى أزورها حاليا , بالرغم مضى السنين التى تزيد عن العشر وبرغم التطورات الهائلة التى قعت وأحدثت تغييرا غير مسبوق فى حياة البلاد , التى تخرج للمرة الأولى طلائعها وقواها الحية لتطيح بواحد من أعتى النظم الديكتاتورية والبوليسية , عندما اقارن وأتامل حياة المصريين العاديين وانماط عيشهم برغم الواقع المستجد , فأننى لا المس او اراى تغيرا جوهريا وعميقا فى حياة الناس او انماط عيشهم وطرائقهم المعتادة للتصرف والتعامل مع القادميين لمصر سواء من العرب او الاجانب . نفس طريقتهم وطباعهم الودوردة لاستقبال الضيوف ونفس كلمات الترحيب التى هى بعض صناعة السياحة ووسائل ترويجيها التى تجعل منها احدى اهم مكونات الدخل القومى للبلاد . المصريون العاديون , او ما يسمونهم هنا بالأغلبية الصامتة ( حزب الكنبة ) لا يميلون للحديث فى السياسة والمجادلات الفكرية او المذهبية , وهم مهممون بما هو اكثر عملية من السياسة , مهممون بالقضايا والمشكلات المتصلة بكسب العيش بشكل مباشر , قضايا السكن والتعليم والصحة والمواصلات وتوفير الخبز والإدام للاسر والأطفال , ومشكلات البطالة التى يتحايلون على تجاوزها من خلال الأعمال الهامشية والخدمات والتجارة الصغيرة المحدودة على العربات اليدوية المتحركة والاكشاك التى تتخذ من الشوارع والمواقف العامة وأزقة الأحياء المكتظة مواقع لترويج . عمدت فى مرات عديدة جر بعضا من هؤلاء المصريين العاديين الى مناقشات سياسية حول الثورة والأحداث التى شهدتها البلاد منذ 25 يناير .البعض منهم سائقو تاكسى وآخرون بوابين او بائعى صحف سيارة او عمال بناء مياومين , اجمع معظمهم على إدانة النظام السابق من منظور البؤس والشقاء الذى آلت اليهم حياتهم بسبب فساده واستئثاره بالثروة على حسابهم , لكن فى الوقت نفسه تجدهم غير معنيين بالابعاد الحقيقية والأكثر عمقا المطلوب للتغيير . واقعهم البائس يجعلهم اقل استعدادا لرؤية المزيد من الاضطراب فى سبيل تغيير جذرى وبناء دولة جديدة كتلك التى طرحتها القوة الطليعية وقوى المجتمع المدنى التى فجرت الثورة . هم يريدون نمط عيشهم المعتاد على بؤسه , لان وطأة هذا الواقع وقسوته لا تتيح لهم » رفاهية الانتظار » ضمن معادلة »رزق اليوم باليوم » الذى لا يحتمل التأجيل وبهذا اصبحت القوة الطليعية والحية لشباب الثورة والنخبة المنتمية الى الطبقة الوسطى فى و الشعب بأغلبيته الصامتة فى واد أخر. وبدا لى أن هذا هو المدخل الأساس الذى ولجت منه قوى الثورة المضادة للالتفاف على اهداف وشعارات الثورة والعمل على إجهاضها , بل واختطافها فى نهاية المطاف . وإذا ما استرجعنا مسار الثورة منذ لحظة سقوط النظام وبعد 18 يوما على الانفجار المدوى فى 25 يناير , وخروج نائب الرئيس المصرى عمر سليمان لإعلان رحيل مبارك , ونص الخطاب القصير لذلك الإعلان يمكننا ان نتبين بوضوح المسالك الوعرة والمأزق الذى دبره النظام السابق ومؤسساته حتى ينتهى لحالة الإرتباك التى تعيشها مصر اليوم ومنها المحاولات المستمتية لشباب الثورة لضمان بلوغ الثورة غايتها من خلال الاعتصامات بميدان التحرير وامام مجلس الوزراء ومجلس الشعب والتى تتصدى لها مؤسسات النظام السابق بكل شراسة بحجة ان الاعتصامات والتظاهرات تعطل المصالح العامة وتفرز الاضطرابات الامنية مثلما حدث فى 19 نوفمبر الماضى ويحدث فى هذه اللحظات التى تجرى فيها مواجهات ساخنة بين قوى الامن العسكرية والشرطية وسط القاهرة والتى سقط فيها العديد من الشهداء والجرحى . فى خطابه القصير لإعلان التنحى قال اللواء عمر سليمان : ( قرر ) الرئيس حسنى مبارك تخليه عن رئاسة الجمهورية و ( كلف ) المجلس الإعلى للقوات المسلحة لإدارة شئون البلاد . و ( القرار والتكليف ) يعنى أن الرئيس مبارك هو الذى رسم المسار وأعطى الإشارة الى الوجهة التى ستسلكها البلاد بعد مغادرته السلطة , وأكثر من ذلك تعيدنا عملية الإسترجاع إلى أن هذا المسار سيتخذ منحى » إصلاحيا » وليس ثوريا كان قد بدأه بالفعل عندما أقال حكومة احمد نظيف وعين حكومة الفريق احمد شفيق خلفا لها وعندما قرر إجراء بعض التعديلات الدستورية التى تمس سلطة الرئيس ومدة ولايته , وهى نفس الاجراءات الإصلاحية التى سار عليها المجلس العسكرى , فأجرى الإستفتاء على التعديلات الدستورية مع بعض الإضافات , واعتمد حكومة شفيق كحكومة لإدارة الفترة الإنتقالية , ولم يقبلها إلا مضطرا ليعين الدكتور عصام شرف خلفا لشفيق , وبفعل اضطرابات 19 نوفمبر اضطر لإقالة شرف ليستبدله بالدكتور كمال الجنزورى , كأحد ممثلى النظام القديم بالرغم مما عرف عنه من انضباط وكفاءة . من ابرز المحطات التى اربكت خطى الثورة المصرية وجعلت مستقبلها » على كف عفريت » كما يقولون هى قضية الدستور , فخلافا لما جرى فى تونس بعد اسقاط نظام بن على فإن المجلس العسكرى ومستشاريه قرروا عدم الذهاب رأسا الى كتابة الدستور جديد , من واقع شعارات الثورة واهدافها التى بسببها تم إطاحة النظام القديم , بل وذهبوا الى التعديلات والاستفتاء عليها والى إصدار » إعلان دستورى » كرس السلطات فى يد المجلس العسكرى واتاح فرصة تمديد بقائه فى الحكم لاكثر من الستة شهور التى تقررت أبتداء بل وجعل الفترة الانتقالية مفتوحة ولم يتراجع عن ذلك إلا بعد الانتفاضة الثانية فى 19 نوفمبر الماضى التى راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى فى شارع احمد محمود المواجه لوزارة الداخلية والقريب من ميدان التحرير . مثل تأجيل الدستور وتقديم الإنتخابات عليه معضلة وأدخل القوى السياسية فى جدل عقيم حول كيفية كتابة الدستور , حتى بعد إجراء انتخابات مجلس الشعب , وحول ما هى الجهة التى من حقها تشكيل اللجنة التأسيسية لصياغة مسودة الدستور , وما هى المبادئ الدستورية التى تضمن قيام دولة بعقد اجتماعى جديد يعبر عن شعارات الثورة ويحقق اهدافها المتمثلة بالحرية والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية , خصوصا مع التقدم الكبير الذى احرزته القوى السياسية التقليدية فى الانتخابات الاخيرة , المعارضة منها كحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الأخوان والممالئة للنظام السابق كحزب النور السلفى الذى كان يفتى بعض نشطائه بحرمة الخروج على الحاكم » مالم ير منه كفر بواح » . مأزق الثورة المصرية إذن هو فى كيفية » تفكيك » و إعادة صياغة وبناء الدولة المصرية لتتواءم مع أهداف الثورة وتلبى تطلعات القوى الجديدة التى إطلعت بإطلاق الثورة وضحت من أجل إنتصارها واطاحة النظام السابق , وهذ يتطلب وفاقاً وطنيا شاملا لا يبدو أنه متحقق فى ضوء الصراعات والممحاكات بين مختلف التيارات المتحركة فى الساحة المصرية , والتى يمكن تلخيصها فى قوى اساسية لكل منها دوره فى رسم خريطة المستقبل دون أن يعرف حتى الأن أى دور سيكون هو الأرجح , فلشباب الثورة دوره المستعصم بأهداف التغيير والوفاء لأرواح الشهداء ومعاناة الجرحى , وللأخوان المسلمين دور يتمثل فى سيطرة كبيرة على الشارع خصوصا فى الأحياء المدينية المكتظة بالسكان والارياف ولهم مشروعهم السياسى الخاص , وإن بدوا أكثر حرصا من حزب النور وغيره من الجماعات الاسلامية على التوافق الوطنى ,وللقوى البيرالية دور فى أوساط الطبقات المستنيرة وهو حليف طبيعى لقوى الثورة وحركات الشباب والمجتمع المدنى , وللقوى السلفية دور ربما يكون معطلا لمشروع الدولة المدنية بعد إحرازهم الموقع الثانى فى البرلمان النتظر , وللمجلس العسكرى الأعلى دوره المتمثل حتى الأن فى إبطاء أندفاع الثورة نحو غايتها والمحافظة على مؤسسات الدولة القديمة وفى مقدمتها الجيش والأمن والنأى بها بقدر الإمكان عن موجبات التغيير التى بدونها تكون الثورة قاصرة بكل المقاييس عن إنجاز أهدافها . وهذا هو مأزق الثورة المصرية الذى يبدو بدون حل حتى هذه اللحظة