لقد كان للقرار السيادى الذي صدر مؤخراً وقضى بإنشاء آلية لمكافحة الفساد بالبلاد، كان له أثر كبير على الرأي العام المحلي، حيث تناولته معظم الأقلام الصحفية بعضها بالمدح والترحاب وآخرين با لشك والريبة.. الأمر الذي دعاني لأقدم اليوم بعض الإضاءات بمصباح الحق والدين. إن مباشرة مهام الحكم وممارسة السلطة تظل دائماً مظنة الفساد بمعناه العام إن لم يتحصن القائم عليها بتقوى الله ويقظة الضمير، ذلك لأن كرسى القيادة يغري غالباً بالإستعلاء وإستصحاب هوى النفس، والجور وعدم العدل في تصريف الشئون العامة وغير ذلك من مظاهر الفساد التي قد لا يدركها كثير من الناس لنقص المعرفة والمرجعية الأخلاقية وربما سبب تفقد الحياة المعاصرة وتشابك دروب سبل كسب العيش، إن مظاهر الظلم والإستبداد السياسي كانت أهم معاول هدم الأنظمة وإضمحلال الحضارات منذ الأزل ونظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعل من أكبر الشواهد على ما ذهبنا إليه أن ثورات الربيع العربي التي تجري اليوم لم يبعثها الإ فساد الأنظمة وظلم الحكام والإستبداد السياسي.. وأن النظام السياسي القائم اليوم في السودان الذي كان في فجره ومبعثه ثورة لإنقاذ أمة السودان من الظلم والضياع والهوان، حرياً به أن يراجع أمره وينقي صفه ويقيم ذات الحجة على نفسه ومؤسساته قبل أن تجري عليه سنن السابقين والمعاصرين. إن قيام آلية لمكافحة الفساد خبر يستحق التقرير والإحتفاء بحسبان أن الآلية جهاز فني مقتدر ومؤهل للتعامل بشفافية وعدالة مع المؤسسات والأفراد ويكون عين ثالثة باصره في رأس مؤسسة الرئاسة تعينها على حسن إدارة الدولة دون التقليل من الأدوار الرقابية والمسئولية الإشرافية الأصيلة المنوطة بكافة المؤسسات التشريعية والتنفيذية والعدلية والمعلقة برقاب كافة أصحاب الرئاسات والمواقع القيادية فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته..) وقد مارس صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده تلك المهام بقوة وأمانة وسنأتي على أمثلة من ذلك. إن مفهوم (الوظيفة العامة) في الإسلام يلتقي مع مفهوم (الولاية العامة) بإعتبار أن كل منهما ينطبق على سلطة الحكم وهو الإستحقاق الشرعي للتصرف وفق ضوابط وحدود تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة على النحو الذي يستوجبه النظام في ضوء فلسفته وأهدافه، وبهذا المعنى إستخدمها الإمام المارودي وأبن الربيع وأبن تيميه وغيرهم ويشمل جميع الولايات بمختلف مستوياتها من الأمانة العظمى (رئاسة الدولة) إلى أصغر الولايات والوظائف كما نسميها اليوم، ويظل مفهوم الولاية محتفظاً بعد ذلك بتميزه في الدلالة على معنى الرعاية والتوجيه الذي يمثله روح النظام الإسلامي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو الموظف العام ومن يرعى مصالحهم وشئونهم. إن علماء المسلمين يفضلون إستخدام مصطلح (الولاية العامة) بدلاً عن (السلطة) في الوظيفة العامة وذلك نفوراً مما ينطوي عليه لفظ (السلطة) من إيحاء التسلط.. حيث أن مصطلح (الولاية) ينطوي على معنى الرعاية والتوجيه والإهتمام، فالوالي هو الراعي والمؤتمن على مصالح الرعية. إن من أهم شروط الصلاحية للقيادة في الإسلام توافر شرطي (القوة والأمانة) لقوله تعالى: ( إن خير من استأجرت القوي الأمين)... فإذا كانت (القوة) تعبر عن الجانب المادي فإن (الأمانة) تعبر عن الجانب الأخلاقي. إن (القوة) تعني الكفاءة والذكاء والقدرة على أداء المهام، وتختلف القوة المطلوبة بإختلاف المهمة.. فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب والخبرة في الحروب والقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه القرآن والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. أما (الأمانة) تعني المصداقية والرقابة الذاتية والمبادرة لأداء العمل على الوجه الأتم، ويتسع معنى الأمانة في الحكم لأكثر من حدود الأمانة المالية إلى أمانة الفكر والرأي والموقف وإتقان الأعمال والوصول إلى درجة الإبداع في التخطيط والتنفيذ، مسترشدين بقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). لقد ربط الإسلام بين الإيمان والأمانة ربطاً عضوياً تأكيداً لأهميتها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا إيمان لمن لا أمانة له).. ونهى الإسلام من إسناد الولايات العامة لغير الصالحين والأكفاء حتى لا تجنح عن جادة الأحكام الشرعية والفضائل المرعية وتستخدم للإبتزاز والأغراض والمصالح الشخصية ويؤكد المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة.. قال: كيف إضاعتها يارسول الله قال: إذا أسند الأمر لغير أهله فإنتظر الساعة) وأشار النبي أن من علامة حلول الدمار بأمته أن تصير الأمانة أي السلطة- مغنماً والزكاة مغرماً وأن يخرج الرجل من رعاع الناس فيقوم على أشرافهم ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ماوالٍ يلي شيئاً من أمور المسلمين فيولي رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين). لأن الوظيفة العامة تعتبر أمانة خطيرة تناط بمن توكل إليه من ذوي الكفايات والأهلية وبالشروط المعتبرة لكل وظيفة. إن من نواقض الأمانة أن يجمع الموظف بين الوظائف العامة والخاصة أو أن يعمل تاجراً في نطاق ولايته فقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يتجرن أحدكم في سلطانه) وكذلك من نواقض الأمانة أن يستغل الموظف منصبه لجلب منافع شخصية أو للإضرار بمصالح الآخرين وإضاعة حقوقهم ونحو ذلك من ضياع أوقات العمل وإهمال الواجبات وإتلاف الموارد. إن قصة أبن اللتيبة المشهورة الواردة في صحيح البخاري الذي كلف بجمع الصدقات في عهد النبي فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (مابال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أمه وأبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ ثم قال: من استعملناه في عمل ورزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول).. ثم قصة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذي أمر إبنه عبد الله أن يبيع إبله ويرد الزائد عن رأسماله لبيت مال المسلمين فقط لأن أمير المؤمنين لاحظ أن الإبل قد سمنت فخشى أن يكون الناس قد أفسحوا لها في المرعى والمشرب بسبب أنها إبل إبن أمير المؤمنين. لو أكتفينا بهذين الشاهدين الراشدين العظيمين لكان كافياً لأن يقيم كل موظف عام ميزاناً عادلاً في فؤاده وضميره يميز به بين الحق والباطل والبر والأثم والهدية والعطية وبين الواجبات والحقوق وبين الحلال والحرام ثم بين الفساد والاصلاح.