تناولنا في المقال الأول أهمية الحدود الدولية بين السودان واثيوبيا للبلدين بالتركيز على السودان ، وانعكاسات أي اضطرابات في اثيوبيا على السودان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وما قد تسببه اثيوبيا للسودان من مشاكل عبر الشريط الحدودي ، وقد ظهر ذلك في دعم اثيوبيا الكبير للحركة الشعبية لتحرير السودان تحت قيادة قرنق في عهد رئيس وزراء اثيوبيا منقستو هايلي ماريام ، والذي يجري الآن في دارفور خير دليل على مايمكن أن تصير إليه الأحوال في الحدود المشتركة بين دولتين ، ولا شك أن حدود السودان مع تشاد تلعب دوراً كبيراً في تأجيج نار الحرب في دارفور ، لأنها حدود تسكنها قبائل مشتركة ، فمن بين الثمانين قبيلة ، وهي عدد قبائل دارفور نجد ثمانية عشر منها مشتركة مع تشاد ، وقد سهلت امكانية الحصول على جوازي سفر «سوداني وتشادي» الحركة في المنطقة ، وقد ألقت الأحداث في دارفور بظلال كثيفة في علاقات البلدين ، فمن حسن الجوار وعدم التدخل في الشئون الداخلية للأخرى واحترام سيادة كل دولة لسيادة جارتها ، وهذه من مبادئ السياسة الدولية ، ساءت علاقات الجارتين وبادلت كل منهما الأخرى الاتهامات بالتدخل في شئونها ا لداخلية ، ودعم الحركات المناوئة والمسلحة ومنحها الملاذ الآمن ، وأدت الى قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما وسحب السفراء واغلاق البعثات الدبلواسية في عاصمة البلدين الخرطوم وانجمينا ، وقامت وساطات من دول الجوار ومنظمة الاتحاد الافريقي لاحتواء الأزمة حتى لاتصل مرحلة الحرب بين البلدين ، وتجر إليها دولاً اخرى ومرتزقة وأصحاب أغراض ، وتحولت قضية دارفور من قضية داخلية سودانية الى مشكلة دولية تدخلت فيها فرنسا ذات ا لمصالح في تشاد ، وهي المستعمرة الفرنسية سابقاً ، ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية بدواعي حقوق الانسان وحماية الأقليات من هيمنة الكبريات ، فزارت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس دارفور ، وقبلها زارها الجنرال كولن باول وكان كذلك وزيراً للخارجية في عهد الرئيس جورج بوش ، كما جاء إليها أمين عام الأممالمتحدة السابق كوفي عنان ووزير خارجية بريطانيا ، وعدد كبير من المسؤولين الأوربيين ومجلس الأمن الدولي ، وفي فترة قصيرة لم تزد عن الخمس سنوات صارت قضية دارفور مسألة دولية بينما قضية جنوب السودان والتي استمر ت لأكثر من عشرين عاما لم تحظ بذلك.. صارت دارفور منطقة نزاع للنفوذ الدولي فمن يسيطر على دارفور يمسك بزمام الأمور في غرب افريقيا كلها ، وهذا ما يهدد مصالح فرنسا في الدول الفرانكفونية في تشاد والسنغال وقامبيا وبوركينا فاسو وليبريا ، وهذا ما تريده الولاياتالمتحدة بعد أن نزعت دول النفوذ البريطاني من بريطانيا في شرق افريقيا ، وشهدت دارفور وجود قوات دولية فيها بقرار من مجلس الأمن مع قوات من دول افريقية للاتحاد الافريقي تحت مسمى «بعثة قوات الأممالمتحدة في دارفور». لقد وفرت تشاد الملاذ الآمن للحركات المسلحة الدارفورية بحجة أن السودان يدعم المعارضين لنظام الرئيس ادريس دبي وكم من اتفاقات تم التوقيع عليها لتهدئة الأوضاع السياسية والعسكرية بين البلدين ، إلاَّ أنها كانت تصاب بالفشل ، وفي وقت وجيز كما حدث للاتفاق الذي تم التوقيع عليه في الرياض بواسطة من خادم الحرمين الشريفين ، ولم تنجح الزيارات المتبادلة للمسؤولين في البلدين السودان وتشاد من الوصول الى تسوية تقنع كل منهما الآخر باتباع سياسة حسن الجوار إلَّا مؤخرا ، ويبدو أن فرنسا وهي صاحبة النفوذ القوي في تشاد أرادت ذلك فمارست نفوذها على الرئيس ادريس دبي لأن العمليات العسكرية في الحدود المشتركة ليست في صالح البلدين والمنطقة ككل ، وقد تُلقي بظلالها على القارة الافريقية بأسرها ، فكان أن منعت تشاد الراحل د. خليل ابراهيم من ممارسة أي نشاط سياسي وعسكري ضد السودان من أراضيها ، وهي التي سبق لها أن سمحت لقوات الراحل خليل ابراهيم في مايو من العام 2008 بالانطلاق من معابر حدودية مشتركة الى عمق السودان ، حتى وصلت الى مدخل كبري الانقاذ في أم درمان من جهة الفتيحاب ، ووقفت عند مباني مجلس بلدي ام درمان- محلية أم درمان - حالياً ، وبهزيمتها فرَّ الراحل خليل ابراهيم الى تشاد مرة أخرى ، فلولا مساعدات تشاد له لما استطاع الاقدام على تلك المجازفة ، ولا شك ان الكلفة المالية كانت باهظة في شراء العربات ذات الدفع الرباعي وتزويدها بالأسلحة، ودفع الحوافز المغرية للمرتزقة للاقدام على تلك الخطوة الانتحارية وخاصة انهم كانوا من الصبية .. ونتيجة للعمليات العسكرية الدائرة في دارفور كانت المؤامرة الدولية على سيادة السودان ، باستصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوكامبو طلب ايقاف الرئيس المشير عمر حسن أحمد البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور ، وكذا أوامر للقبض على السيد موسى هلال ومولانا محمد أحمد هرون بذات الدعوى ، بينما غض الطرف على الجرائم الحقيقية التي ترتكبها اسرائيل ضد شعب فلسطين المكافح والمناضل من أجل استرداد حقوقه المغتصبة ، وساعدت امكانات ليبيا المادية التي سخرها الراحل معمر القذافي لحركة العدل والمساواة وقائدها خليل ابراهيم ، الذي لجأ الى طرابلس بعد أن طردته تشاد من أراضيها على استمرار القتال ، حيث كانت تنساب المعينات الحربية لحاملي السلاح عبر حدود ليبيا وتشاد ، والمعروف أن ليبيا اخترقت الحدود السودانية للمرة الأولى في العام 1976 عندما جاء من أسموهم «المرتزقة» الى قلب العاصمة في محاولة لقلب نظام الرئيس الراحل جعفر نميري ، ولكن تم دحرها ولم يكتف الراحل القذافي بذلك بل اخترق الأجواء السودانية عندما قامت طائرة حربية ليبية من طراز انتنوف بمحاولة ضرب الاذاعة السودانية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، ولكنها أخطأت الهدف وأفرغت حمولتها على مقربة من مبنى الاذاعة فكانت هذه هي المرة الأولى التي تشكل فيها الأجواء السودانية المفتوحة خطراً على أمن البلاد ، حتى جاءت الحالة الثانية في أغسطس من العام 1998 عندما قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بتدمير مصنع الشفاء لصناعة الأدوية في الخرطوم بحري بصواريخ كروز ، والحالتين الثالثة والرابعة قامت بها اسرائيل في أواخر العام الماضي 2011 عندما أغارت طائراتها على قافلة من السيارات شمال مدينة بورتسودان كانت تظن أنها تحمل أسلحة ايرانية مهربة الى حركة المقاومة الاسلامية «حماس» في غزة ، بينما كانت تحمل القافلة بشراً ، ثم قامت بتدمير عربة جياد سوناتا وقتل من كانوا فيها بعد مغادرتهم مطار بورتسودان في طريقهم الى المدينة ، ومن جهة تشاد فقد قامت طائرات عمودية تابعة لقواتها المسلحة بخرق المجال الجوي السوداني بعمق خمسين كيلومتر تقريبا بدون مبرر. وتنعكس هذه المساعدات لحملة السلاح في دارفور على البلاد في الزيادة على الصرف على القوات المسلحة وقوات الشرطة وقوات الأمن والمخابرات والدفاع الشعبي والشرطة الشعبية وقوات الاحتياطي المركزي عتاداً وذخيرة ومعينات قتال ، وتأتي بازهاق الأرواح والهجرة نزوحاً ولجوءً ، وتمنع الزراعة ، والتجارة ، والصناعة ، وبناء القدرات والصرف على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والماء وفتح الطرق وتعبيدها ، اذ توجه معظم الموارد المالية الى العمليات لبسط الأمن وفرض هيبة الدولة وسلطانها وتجدر الاشارة الى أن طول الحدود بين البلدين يبلغ 1280 ألف ومائتين وثمانين كيلو مترا ، ولا شك انها طويلة وفيها تستطيع تشاد زعزعة الأمن والاستقرار ، والذي يجري في دارفور خير دليل ، فبسحب الدعم التشادي ومقتل معمر القذافي انهار ركنان أساسيات لتلك الحركات مما جعلها تغير مسارها وتتجه جنوباً ولكنها ان وجدت الملاذ الآمن في جمهورية جنوب السودان فلن تجد التمويل البذخي كما كان يفعل معمر القذافي ، فانقلب وضعها من قوة الى ضعف.