توشك الصحافة السودانية أن تتداعى إلا من بعض اسهامات قليلة متناثرة متباعدة وعلى استحياء. وإن عبء المعرفة يفرض عليّ أن أكتب اليوم، منبهاً لهذه الإرهاصات بين الحين والآخر أطالع- دون قصد- بعض الصحف فأجد السواد الأعظم ممن يكتبون مستغرقين في سرد تفاصيل حياتهم اليومية، وبأي حال فإن الكتابة على هذا النحو غير مقبولة، إلا من هامات معينة يرجى الاستفادة من عراكها اليومي، إما لتجربتها العريضة في الحياة، أو لأن حياتها لذاتها تحولت لما يمكن ان نسميه ثقافة.. ومثل هؤلاء يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة، ولن نخوض في ذلك، وليس هذا بالمشروع الثقافي الفردي أو الخاص.. إنه شأن قومي. إننا نتطلع الى انجاز عظيم وإن كان بعيد المنال. منذ زمن وباستحقاق تتربع الكويت وقطر على عرش الثقافة والمعرفة العربية المقروءة، كما في مجلة العربي الكويتية، أو مجلة الدوحة القطرية، وليس ببعيد من ذلك المشاهد المسموعة كما في قناة الجزيرة القطرية، وها هي قطر تتمدد سياسياً وإنسانياً ورياضياً و... إنه توسع فكري شامل رأسياً وأفقياً. دول دفعت بسخاء، وتحلت بالصبر.. عمل احترافي بإمتياز، فأين نحن من ذلك مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث كانت مجلة الخرطوم محاولة- ربما إن قدر لها أن تستمر- تعودنا في السودان على ألاَّ يستمر شيء - لأتت أكلها. ربما كان لعدم الاستقرار السياسي نصيب في عدم استمرارها- لكن يدحض ذلك أن الكويت في زمن الاجتياح العراقي الغاشم كانت أحرص ما تكون على أن تخرج مجلة العربي في وقتها مهما كلف الأمر، وكأن شيئاً لم يكن على اعتبار أن مجلة العربي أصبحت رمزاً للدولة يجب ألا يغيب، هي باستحقاق سفير الكويت في كل الدول والبيوت - وربما كان الانغلاق وعدم الانقتاح على الآخر سبباً قوياً في عدم استمرار مجلة الخرطوم آنذاك، لأنها ببساطة لم تسعَ لاستقطاب كُتَّاب محترمين من خارج السودان، ولم تستصحب تجربة مجلة العربي الكويتية. مجلة الخرطوم هي- من دون شك- اسم قومي، لكنه الآن باهت جداً بل مخزٍ - فيما يتعلق بالمضمون «المادة المقروءة» شأن كل المتداول في السودان الآن - نوع الورق جيد، كذلك الطباعة، لكن عدد «كم» الصفحات قليل وأود هنا- بتجرد وقومية- أن اقترح أن تتبنى الدولة أموراً عديدة بشكل احترافي منها: ü إعادة تأهيل مجلة الخرطوم، على اعتبار أنها تحمل الاسم القومي للدولة، فإما أن تكون، أو تخرج كما ينبغي، أو فلتتوقف «إن كانت ما زالت مستمرة، لا أدري فلأكثر من عشرة أعوام توقفت عن تداول أي مطبوعة سودانية، لأنها ببساطة تمثل غيبوبة فكرية» وفي ذلك إنها إصدارة شهرية، أي لن ترهق الدولة مادياً، يجب بأي حال ألاّ يتجاوز ثمن النسخة من 2 الى 3 جنيهات، أو ما يعادلها في الخارج سعياً للعالمية، كما يجب ألاّ يقل عدد الصفحات عن «100» مائة صفحة مبدئياً، ولا مانع من أن يصحبها ملحق في نحو «25» صفحة مجاني»، وأن يكون العدد كتاباً من «100» الى «150» صفحة «مجاني» من الأدب العربي، قديمه أو حديثه.. وأن تكون منزوعة الدسم، أي لا تتبنى أي توجه ايدلوجي بأن تكون على الحياد «المعرفة من أجل المعرفة» ضمان هذا الحياد يتأتى من أن يكون كل مجلس إدارتها وتحريرها من غير السودانيين - اقترح المدرسة المغاربية «المغرب، الجزائر، تونس،...»، اختيار المدرسة المغاربية سيعطي مذاقاً وبعداً آخر، لأنه سيولد حالة من المنافسة مع المدرسة الكلاسيكية «مصر، لبنان، العربي، الدوحة، الحياة، الشرق الأوسط، نيوزويك العربية،...» - مع الاكتفاء بمستشار سوداني واحد يستأنس برأيه «مع مراعاة ألاّ يكون من الديناصورات». ومن أراد أن يكتب فيها من السودانيين، فإن أعماله كغيره من الأدباء تعرض على اللجنة المختصة بنشر الأعمال من عدمه «لجنة وليس رئيس تحرير للحد من مركزية السلطة»، مع مراعاة تقليص عدد الكادر البشري للحد من الصرف، على أن تدفع الدولة بسخاء بحسب ما هو متعارف عليه في مجلتي العربي والدوحة، أو حتى قريب من ذلك.وأهم من ذلك أن نتفق كسودانيين على أن هذا عمل قومي، استمراره غير مرتبط بإستمرار نظام سياسي معين، أو حتى زواله. ü إعادة تأهيل قناة الخرطوم التلفزيونية بنفس الترتيبات وبشكل احترافي ولا نقول كما في الجزيرة القطرية، وإنما قريباً من ذلك. ü تأسيس فرقة الخرطوم للموسيقى العربية، لتقديم روائع السيدة أم كلثوم مثلاً، أو شيئاً من الموشحات الأندلسية، وانتداب نفر من أبناء الوطن لدراسة الموسيقى العربية في مصر والمغرب والعراق أو الاستعانة بمختصين من هذه الدول، لامداد الفرقة مستقبلاً بكوادر محلية، وهذا بدوره يقود لتأسيس دار الأوبرا السودانية - في موقع مميز - بحيث لا تكون أقل من دار الأوبرا المصرية، وحتى يرى مثل هذا الصرح النور - اعتقد عام يكفي - تتم استضافة هذه الليالي في قاعة الصداقة بأسعار دخول معقولة.. هذه وغيرها من أفكار هي «مشروع إعادة بناء ثقافة تحتية للدولة».