انتهينا في الحلقة الماضية الى قول المؤلف د. وحيد عبد المجيد عن طبيعة العلاقة بين جماعة الاخوان المسلمين وثورة 23 يوليو، إن تلك العلاقة كان محكوماً عليها بأن تمضي نحو الصدام، لأنها قامت في أساسها على محاولة كل منهما استخدام الآخر من أجل تحقيق أهدافه.. ويعيد عبد المجيد أسباب ذلك الصدام الحتمي الى نظرة كل فريق الى الآخر، فقد وجد «الأخوان» -كما قال- في تنظيم الضباط الأحرار الذراع العسكري التي يمكن أن تحملهم الى السلطة، بينما رأى أهم قادة ذلك التنظيم في جماعة «الأخوان» قاعدة شعبية يمكنهم الاعتماد عليها في الأيام الأولى الى أن تتحقق لهم السيطرة الكاملة، وهذا النوع من العلاقات يقود الى ما يطلق عليه مباراة صفرية ZERO SUM GAME، إذ يستحيل أن تحقق لأي من الطرفين هدفه، لأن نجاح أحدهما يتوقف على فشل الآخر، فكان سعي كل منهما الى استخدام الآخر مطية جوهر المشكلة.. وهذا استنتاج يختلف مع تحليلات أخرى لعوامل الصدام، تعيده الى تبدل الأولويات لدى كل منهما بعد انتهاء النظام القديم أو الى خلافات محددة مع كيفية التعامل مع الاحتلال البريطاني في السويس، أو على الاصلاح الزراعي والحد الأقصى للملكية، أو على اشتراك الأخوان في الحكومة، أو حتى على موقع الشريعة الإسلامية في النظام الجديد، فلا الخلاف حول الحد الاقصى للملكية الزراعية التي قررت الثورة أن تكون 200 فدان، بينما طالبت «الجماعة» بأن تكون 500 فدان، ولا معارضة اتفاقية جلاء القوات البريطانية التي رفضها «الأخوان» بحجة «التنازلات»، كان متصوراً أن تبلغ ما بلغته من حدة إلا بعد أن أصبح الصدام النهائي قادماً لا محالة، وقد وقع فعلاً في اكتوبر 1954 بعد أربعة شهور فقط على اتفاقية الجلاء، وعندما اقتربت العلاقة من لحظة الصدام النهائي، اتجهت قيادة الثورة الى ممارسة الضغوط على «الأخوان»، وقررت في يناير 1954 حل جماعتهم التي سبق أن استثنتها من قرار حل الاحزاب في يناير 1953. ويفصِّل المؤلف في تطورات تلك العلاقة والتعقيدات التي اكتنفتها، ومنها «التأييد المشروط» للجماعة، بعد انتصار حركة الضباط الأحرار والإطاحة بالنظام، حيث لم يتضمن بيانهم الصادر في 28 يوليو -بعد تردد- تأييداً صريحاً، وإن تحدث عن «الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم» وعندما أهاب ب«الإخوان أن يشدوا أزرها» ربط ذلك بأن «تبلغ مداها من الإصلاح الشامل»، وترافق ذلك أيضاً مع رفضها باصرار انضمامها للتنظيم السياسي للثورة (هيئة التحرير)، رغم دعوتهم الى العمل من خلاله، وهذا يذكرنا -لدرجة التطابق- بموقف الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق من «التأييد المشروط» لحركة مايو وبدور مايو في تقسيم الحزب واختراقه، خصوصاً بالنظر الى انضمام بعض «الجماعة» الى «هيئة التحرير»، ومشاركة بعضهم في حكومة محمد نجيب، بعد مناورة بارعة من عبد الناصر، بينما قرر المرشد العام فصل كل عضو ينضم الى هيئة التحرير أو يشارك في الحكومة.. كما أنهم تعجلوا في كشف أوراقهم عندما طالبوا بتطبيق الشريعة واتخاذ اجراءات لأسلمة المجتمع، فلما لجأت الثورة الى المناورة بأن هذا التغيير يحتاج الى وقت وإعداد طلبت «الجماعة» تكوين لجنة منهم ومن الجيش، تعرض عليها القوانين والقرارات قبل إصدارها. فلم يوفر «الإخوان» جهداً في تأكيد مخاوف الثورة من انهم يريدون فرض سيطرتهم أو وصايتهم، الأمر الذي دفعها -وعلى رأسها جمال عبد الناصر- الى الاستعداد للصدام والدفع في اتجاهه يوماً بعد آخر، وإزاء ذلك عمدت «الجماعة» الى تدعيم علاقتها باللواء محمد نجيب الذي كان الوحيد في مجلس الثورة الذي اعترض على قرار الحل، وذلك بينما كان نجيب يتجه هو الآخر الى خوض جولة حاسمة في الصراع ضد عبد الناصر. وإذ خسر نجيب تلك الجولة، ظهر مدى خطأ «الإخوان» في الوقوف وراءه. ولم تمض سوى أشهر قليلة على أزمة مارس بين نجيب وناصر حتى جاءت النهاية شديدة الدرامية في 26 اكتوبر 1954، بعد محاولة اغتياله خلال إلقائه خطاباً جماهيرياً في ميدان المنشية في الاسكندرية، فيما عرف باسم «المؤامرة الكبرى» التي تم على أثرها حل جماعة الإخوان، ومثول قادتها أمام محكمة استثنائية، نظرت القضية في شهر واحد وأصدرت أحكامها بالإعدام والاشغال الشاقة المؤبدة في حق 14 من أبرز كوادرهم. يخصص المؤلف الفصل الثاني من كتابه لدراسة طبيعة التنظيم، تحت عنوان: الإخوان المسلمون بين «السمع والطاعة» و«الحوار والشورى»، ويدقق في البحث في مكونات ذلك التنظيم وطبيعة العلاقة بين القاعدة والقيادة، وبين هيئات ومؤسسات التنظيم بحسب وظائفها، ويستخلص أنه بالرغم من القسم الذي يؤديه الأعضاء المنضمين الى الجماعة والذي ينص على: «أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وأقسم بالله العلي العظيم على ذلك وأبايع عليه، والله على ما أقول وكيل»، بالرغم من ذلك القسم المغلظ على «السمع والطاعة» والذي يوحي بأنه لا مجال فيه لنقاش أو حوار أو اختلاف في الرأي، يستخلص الكاتب أن هذه الصورة ليست واقعية تماماً، وإن التنظيم منذ تأسيسه عرف أنواعاً شتى من التفاعلات بين قادته وأعضائه وفي أوساط قيادته، وإن حوارات وخلافات قد شهدتها أروقة التنظيم، سواء كان على مستوى مؤسساته العليا، كمكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية، أو المركز العام، أو «النظام الخاص»، أو حتى على مستوى الهيئات القاعدية والدنيا كالشُعب والمناطق والمنظمات التابعة كالجوالة والكشافة والكتايب.. وأورد الكاتب العديد من الشواهد والوقائع على تلك الخلافات والتدافع، وكيفية إدارة تلك الخلافات في عهد المرشد المؤسسي البنا وما بعد رحيله، بما لا يسمح الحيز المتاح للتفصيل فيه. نواصل..