نخطئ خطأ كبيراً عندما نتعامل مع دولة الحركة الشعبية بالجنوب، باعتبارها لا تملك مقومات الدولة- وهي كذلك- ولكنها تملك ما هو أخطر علينا من لو أنها استطاعت بناء دولة، وهو العداء المستحكم فيهم تجاهنا، مع دعم القوى المهيمنة على العالم، ليس حباً فيهم، ولكن بغضاً في سواهم. الواهمون منا يخطبون ود الحركة الشعبية بمعاداة النظام القائم في الخرطوم، متجاهلين حقائق التاريخ القريب والبعيد، التي تقول إنه لم ينشأ ولاء للدولة السودانية في الجنوب، ولم ينشأ ود إلا وهو مشوب بالشك والريبة تجاه الشمال، ويخطئ فريق آخر من الناس حينما يصفون الحركة الشعبية بأنها مجرد مخلب قط، وأن القط لا شأن له بمصلحة الطرفين، إنما يسخرهم لمصالحه هو وحسب.. هذه نعم هي بعض الحقيقة، ولكن الحقيقة تكون أكمل لو قلنا إن الحركة قد رهنت بقاءها وحياتها بمعاداتنا، وهي تعمل على بناء روح الولاء الوطني في الدولة الوليدة باتخاذنا عدواً استراتيجياً، ويكفي خيانة وطنية عظمى أن يذكر السياسي منهم دولة السودان -«الشمال»- بخير، وشاهد على ذلك ما جرى لوزير خارجية السودان السابق د. لام أكول الرجل الواقعي ذو الكفاءة والمؤهلات العالية، والدكتورة تابيتا بطرس، وهما عملا في منصبيهما بقومية ووطنية ومسؤولية، فعزلا من وزارتي الخارجية والصحة. القضية المحورية التي تشغل بها الحركة الشعبية مواطن الجنوب عن استحقاقاته تجاه الدولة الوليدة الغنية بثرواتها الطبيعية، ومياهها، وبترولها، وأرضها الخصبة، تلك القضية هي العداء للسودان، وهي تجد في هذا المواطن البسيط استعداداً واستجابة إذ تعلق الحركة كل اخفاقاتها وعجزها عن الخروج من دائرة التمرد الى رحاب الدولة على شماعة اسمها الشمال، ومسيرة العداء الجنوبي للسودان ستظل مستمرة ما دامت هناك نخبة تستأثر بالسلطة والقرار، وهناك رعايا تسوقهم هذه النخبة كالقطيع حيث أرادت، أما الذين يبشروننا بجوار مسؤول مع حكومة الحركة الشعبية إذ زالت الإنقاذ، فنسوق لهم في هذه الحلقة شاهدين فقط، ونترك ما بين الشاهدين للحلقة الثانية والأخيرة. كنت أظن- مخطئاً- أن أهل الجنوب في مؤتمر جوبا 1947 الذي دعت له حكومة بريطانيا قد اختاروا فعلا الوحدة، حتى قرأت شهادة السير جيمس روبرتسون وهو يقول «نظرت الى المؤتمر من ناحية واحدة كوسيلة لاكتشاف قدرات الجنوبيين ولهذا لم يكن بعض الناس يلتزمون الدقة اطلاقاً، عندما قالوا فيما بعد إن ممثلي الجنوب في مؤتمر جوبا قد وافقوا على البقاء مع الشمال، لم يتخذ المؤتمر أي قرارات إذ إن الأعضاء لم يكن لديهم تفويض من جماعتهم، كنت اتخذ القرار الوحيد الذي نتج عن المؤتمر»، هذه هي شهادة السير جيمس روبرتسون، وقد كان رئيساً لمؤتمر جوبا أوردها في صفحة (171) من «السودان من الحكم البريطاني المباشر الى فجرالاستقلال» دار الجيل بيروت 1996 كما نقله د. بول دينق شول في كتابه القيم «جنوب السودان من دعوات الفدرالية الى تقرير المصير».. وأما الشاهد الثاني، فهو ظن البعض أن د. جون قرنق كان وحدوياً وهو ليس كذلك إنما كان انفصالياً اقصائياً في آن واحد، يسعى الى تمكين الجنوب داخل حدوده، ثم الهجمة على الشمال لمحو الوجود العربي والإسلامي من كافة السودان، فهو عندما وجهه الانفصاليين بقولهم «لماذا نقاتل من أجل كل السودان ذنبنا ايه كدي خلينا نشيل الجنوب بتاعنا دا وخلاص كفى» قال لهم: «إنت الانفصالي دا قاتل بجانبي حتى تصل ما تعتقد انو دا الحدود بتاع الجنوب، وقِف عند ذلك الحد، أديني تمام وقول د. جون أنا مهمة بتاعي انتهى هنا، فسأتركك هناك، أنا بسيب إنت هناك تكون حرس بتاع حدود، أما بقيتنا الذين يؤمنون بوحدة بلدنا سنواصل القتال، حتى نأخذ الخرطوم ونقيم السودان الجديد»!! لاحظ العبارة «حرس بتاع حدود»، وكذلك العبارة «نأخذ الخرطوم»، وهو بالضبط ما نفذه أولاد قرنق بِراً به بعد وفاته، وهو ما يجري على الساحة الآن، فمن يبلغ الآملين في جوار حسن مع هؤلاء الذين يبقى أقلهم لحراسة الحدود، ويسعى أكثرهم لأخذ الخرطوم وإقامة السودان الجديد.