مساء اول امس «الاثنين» بدا ان الجمعية التأسيسية المصرية للدستور التي اختار اعضاءها المائة الأساسيين والخمسين الاحتياطيين مجلس الشعب المحلول بمشاركة مجلس الشورى، الذي لا يزال على قيد الحياة برغم انتخابه بذات القانون الذي افضى الى حل الأول، بدا أن الجمعية تواصل عملها، غير عابئة بمهددات الحل الذي طال سابقتها بعد حكم القضاء الإداري بعدم شرعيتها لاستحواز التيارات الاسلامية على الأغلبية فيها. والجمعية الجديدة التي انتخبت قبل أسابيع قليلة من حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب هي الأخرى مهددة بالحل لذات الأسباب ولا تزال هناك طعون مرفوعة من العديد من الهيئات والشخصيات على تشكيلتها الجديدة. فالليلة الماضية وقف نائب مجلس الشعب المحلول ووكيل لجنة التشريع فيه الذي كان من بين من ضمتهم التشكيلة الجديدة يُحدث إحدى الفضائيات المصرية باطمئنان شديد بأنهم بدأوا العمل في الدستور الجديد بالفعل، بعد أن انتهوا من الاجراءات التنظيمية وشكلوا أكثر من خمس لجان تختص كل منها بباب من أبواب الدستور، وبدا الرجل مطمئناً، طمأنينة ربما كان مبعثها وصولهم إلى سدة الرئاسة، أو ما رشح من أنباء عن امكانية عودة مجلس الشعب إلى عمله بإلتماس من محكمة القضاء الاداري أو غيرها من الهيئات القضائية المصرية المتعددة تتقدم به للمحكمة الدستورية لإعادة النظر في قرارها بحل المجلس بناء على فساد «الثلث الفردي» المطعون فيه ليعود الثلثان إلى عملها، ويتم اجراء انتخابات على الثلث المطعون فيه. قصة الدستور في مصر ما بعد 25 يناير، قصة طويلة ومعقدة، فقد كانت جميع العيون مصوبة بشغف وقلق بالغين إلى «الدستور» باعتباره العنوان الأبرز الكاشف لهوية مصر ما بعد الثورة، هويتها الوطنية والسياسية والاقتصادية، بل ومستقبلها برمته، أتكون دولة ديموقراطية حقة أم تلوي إلى منعرجات أخرى تجعل منها دولة دينية أو ديموقراطية شكلية تبقى على هيمنة العسكر كما كان عليه الحال على مدى 60 عاماً. بعد زيارة لي لنقابة الصحافيين المصريين للقاء صديقي وزميلي الاستاذ عبد العال الباقوري الوكيل السابق للنقابة ورئيس تحرير «الأهالي» السابق وأحد كبار صحافيي «الجمهورية» وكتابها الراتبين، خرجت بصحبة عبد العال صوب ميدان التحرير وفي الطريق وقف كعادته بالكشك الذي يشتري منه جرائده وآخر الإصدارات من الكتب، مّد عبد العال يده ورفع كتاباً للدكتور علي السلمي، استاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة واشترى لي نسخة منه. كتاب صدر في شهر مايو المنصرم ويحمل عنوان «التحول الديموقراطي واشكالية وثيقة المباديء الدستورية». تلك الوثيقة التي أثارت ضجة سياسية عظيمة واستدعت أكثر من «مليونية» بميدان التحرير وتظاهرات أخرى في الاسكندرية والسويس ومحافظات أخرى واشتهرت ب«وثيقة السلمي» التي رفضتها القوى الاسلامية وناهضتها حتى اسقطتها قبل أن ترى النور بعد قليل من صدورها في 22 أغسطس من العام الماضي. وبسقوطها انطوت كل المحاولات الهادفة لوضع مباديء أساسية يتوافق عليها المصريون بطوائفهم السياسية والدينية والنقابية وقواهم الحية. وآل الأمر برمته إلى الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، التي تم حلها في تشكيلتها الأولى ولا تزال الطعون القانونية والشكوك تحوم حول تشكيلتها الجديدة والتي بدأت عملها، كما سبقت الاشارة. الكتاب الذي أهدانيهُ الاستاذ الباقوري -مشكوراً- حوى قصة الصراع من أجل الدستور في مصر الجديدة. وفصَّل فيه كاتبه الذي احتل منصب «نائب رئيس الوزراء للتنمية السياسية والتحول الديموقراطي» في حكومة الدكتور عصام شرف التي خلفت حكومة الفريق أحمد شفيق الذي عينه مبارك عندما اشتدت الأزمة قبيل سقوط النظام. وأهمية الكتاب تعود إلى أن صاحبه هو من كان معنياً بترتيب الأوضاع السياسية لمصر وتنميتها في اتجاه التحول الديموقراطي الكامل كما يشي عنوان منصبه المستحدث. وهو كما بدا لي وأنا أطالع الكتاب رجل ذو رؤية سياسية عميقة وانحياز للديموقراطية بلاضافة لتأهيله الأكاديمي الذي رشحه للاطلاع بمهام المنصب الكبير والخطير. واللافت أن الدكتور السلمي بدأ في وضع كتابه الذي نحن بصدده، والذي يشكل محور هذه «الاضاءة» قبل شهور عديدة من تعيينه نائباً لرئيس الوزراء، ما حتم عليه الانقطاع ومن ثم ليعود لمواصلة العمل فيه بعد أن غادر منصبه اثر سقوط حكومة عصام شرف. ً في تلك المرحلة الباكرة التي اعقبت انتصار الثورة، كان للدكتور السلمي رؤيته الخاصة لما يجري حوله، كان غير راضٍ عن المسار الذي إتخذته الثورة لنفسها ورأى فيه التفافاً على أهداف الثورة وغاياتها ومخالفةً لمنهج الثورات على وجه العموم. فكتب يقول: مع مرور الأيام استمرت الفوضى المتعمدة، وممارسات أصحاب الثورة المضادة الممنهجة، وحتى الآن تبدو المشكلة الأساسية والخطر الحقيقي الذي يهدد الثورة في أن المسؤولين، سواء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو في الحكومات الثلاث التي تشكلت منذ التاسع والعشرين من يناير (2011) قد ألزموا أنفسهم باتباع منهج غير ثوري لتحقيق أهداف ثورة!.. إن الالتزام بما يسمى الشرعية الدستورية لا يستقيم في ظل أوضاع شعب أسقط النظام الذي صنع الدستور وصممه ليسمح له بالانفراد بالسلطة وإقامة حكم ديكتاتوري أضر بالبلاد وأذل العباد.. إن الشرعية الوحيدة التي كان من الواجب الالتزام بها منذ 25 يناير هي «الشرعية الثورة» وهنا يمكن الإشارة إلى تطابق وجهة نظر الدكتور السلمي مع وجهة نظر الاستاذ محمد حسين هيكل التي عبر عنها باكراً أيضاً في اعقاب انتصار الثورة في حديث صحفي مطول أجرته معه جريدة «الأهرام». ويمضي السلمي ليقول: هي الشرعية الثورية التي تفرض الاطاحة بكل سياسيات ونظم وقيادات ورموز النظام السابق كي يتم تأمين الثورة، وإتاحة الفرصة لها لتضع دستورها وتؤسس شرعيتها وتقيم احزابها وتشكل حكوماتها وسياساتها ونظمها وتختار قياداتها اختياراً ديموقراطياً حراً بعيداً عن مؤامرات أذناب النظام الساقط وفلول حزبه ورجال أعماله والفاسدين والمفسدين من أركانه في أجهزة الدولة. ورأى السلمي ان حماية الوطن وانقاذ ثورته -بدلاً من الانشغال بقضايا الانفلات الأمني وافتعال أحداث ما يسمى بالفتنة الطائفية وتعطيل مسار الحياة الطبيعية وتوقف الانتاج كان من شأنهما أن يفرض على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي ارتضاه الشعب لقيادة مسيرته نحو الديموقراطية والسلطة المدنية المنتخبة، أن يتحرر مما ألزم نفسه به من دستور أسقطه الرئيس السابق فعلاً، حين لم يلتزم به وقت تخليه عن منصبه ولم يتبع الاجراءات التي نص عليها في حالات خلو منصب الرئيس، ثم تم تعطيله بقرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ويقرر علي السلمي: ان الحالة المصرية بعد سنة على ثورة 25 يناير لا تزال ترزح تحت أوزار وسلبيات ما صنعه مبارك بالوطن والشعب، وزاد عليهما استمرار أحوال الفوضى والتشرذم الذي أصاب ثوار ميدان التحرير وتسلق مجموعة من رجال المال والأعمال وجماعات الفكر الديني المتشدد لركوب موجة الثورة وتحويلها لخدمة أغراضهم وأفكارهم. وبشكل عام لا يزال المشهد الوطني المصري يبدو بعد 25 يناير استمراراً لما كان عليه قبلها، فلم تصل الثورة إلى مواقع الحكم وإدارة شؤون البلاد ومؤسسات الدولة وكثير من منظمات المجتمع. هذه الفقرة الأخيرة كتبها السلمي -كما أشار في اسفل الصفحة- يوم الاثنين 30 يناير 2012، حيث لا تزال الاعتصامات والاشتباكات مستمرة أمام مبنى التلفزيون القومي (ماسبيرو) وفي ميدان التحرير منذ 25 يناير. و(نواصل)..