في مؤتمره الصحفي أمس الأول أكد د. غازي صلاح الدين أنّ أهداف وأولويات «الاستراتيجية الجديدة» نحو دارفور تتمثل في تحقيق تسوية سياسية شاملة وتعزيز الأمن وتوطين عملية سياسية في دارفور، وتعجيل العودة الطوعية المستدامة واتخاذ إجراءات من جانب الحكومة لتنفيذ المشاريع التنموية وتنظيم مشاورات بشكل جيِّد بين قطاعات المجتمع الدارفوري، والعمل على تطبيق «العدالة للجميع» وإعادة هيكلة العمليات الإنسانية للتحول من الإغاثة للتنمية. وبرغم قناعتي المسبقة، وقناعة كثيرين مثلي من المراقبين والسياسيين المحترفين، بأن العوامل الداخلية هي الأساس في كل تطوّر أو تبدل يطرأ على الأشياء، وهو ما عبرتُ عنه في أوقات سابقة بتأييدي «توطين الحل السياسي» لأزمة دارفور، إلا أنني عندما وقفت على الأفكار الرئيسية وتمعنت في الخطط والاتجاهات التي تتبناها «الاستراتيجية الجديدة» التي أطلقها د. غازي صلاح الدين مسؤول ملف دارفور لم أجد فيها جديداً لافتاً، أو فكرة غير مجربة من قبل أو خطة لم يتم طرحها ومحاولة تنفيذها، منذ مفاوضات إنجمينا مروراً بأبوجا وانتهاءاً بالدوحة على المستوى الخارجي، أمّا داخلياً فقد انعقدت العديد من الورش في الخرطوم والفاشر ونيالا حتى انتهينا إلى مؤتمر كنانة الذي حمل مبادرة أهل السودان قبيل انطلاقة مبادرة الدوحة، والتي انفردت فيها الحكومة أولاً بالتفاوض مع حركة العدل والمساواة، ثم مع الكيان السياسي الجديد الموحد لعدد من الحركات فيما أصبح يعرف ب«حركة التحرير والعدالة» بقيادة د. التجاني سيسي الوالي الدارفوري السابق وأحد القادة البارزين في حزب الإمة خلال فترة الديمقراطية الثالثة. ربما يكون التفسير الأقرب لحقائق الواقع، هو ما قدمه نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان محمد طه خلال اللقاء التشاوري الذي انعقد بقاعة الصداقة مساء الأحد الماضي بأن حديث وتصريحات غازي حول الاستراتيجية الجديدة ومسودتها أتت تقديراً للمتغيرات التي طرأت على الساحة الوطنية وأهمها إجراء الانتخابات الأخيرة وما صاحبها من نتائج وآثار بقيام مؤسسات مفوضة ومنتخبة بجانب المتغيرات الإقليمية والدولية التي انصبت وأثرت إيجاباً على القضية وما انتهت اليه مباحثات الدوحة الأخيرة، وذلك حتم أن تقوم قراءة جديدة لربط هذه المتغيرات بأرض الواقع واستقراء المستقبل، بهدف بلوغ «نهاياتٍ تكفل استدامة الاستقرار والأمن في دارفور». بكلمات أخرى، فإن الحكومة رأت في الانتخابات تغيراً كبيراً طرأ على الساحة، بوجود ولاة منتخبين وعناصر نيابية منتخبة تمثل دارفور، وهذا يعزز من شرعيتها وحرية حركتها في دارفور، لتعزز من قبضتها الأمنية وتفرض هيبتها على الجميع، خصوصاً بعد أن انسد الباب الرئيسي «البجيب الريح»، ريح الحركات التي كانت تستمتع بالدعم اللوجستي والتسليحي وتنطلق إلى الميدان بدءاً من دارفور مروراً بكردفان وانتهاءاً بمشارف الخرطومالغربية. كما أن باب ليبيا قد تم إغلاقه بقرار من جانب السودان بعد استجارة رئيس حركة العدل والمساواة بطرابلس بعد إبعاده من مطار انجمينا، ورغم أن الملاحقات والمطالبات الرسمية لم تجبر خليل أو عبد الواحد محمد نور على الانضمام لمفاوضات الدوحة، لكن على كل حال فإن الوضع انتهى إلى حالة من الجمود. مما مكن الحكومة من إعادة النظر في مجمل حركتها وتدابيرها المتصلة بدارفور. إنّ قراءة متأنية في مسودة استراتيجية غازي صلاح الدين الجديد تجاه دارفور، تؤكد خلوّها من أي أفكارٍ جديدة، وأن الجهد كله انصب على «إعادة صياغة» تلك الأفكار والخطط القديمة، أو تحديثها أو «إعادة تأهيلها» بلغة الميكانيكا والعمران، حتى توائم المستجدات التي طرأت على الساحة بعد الانتخابات والمصالحات. ًُü ففكرة «توطين الحل» أو السلام من الداخل فكرة قديمة ومطروقة جربتها الإنقاذ منذ تسعينيات القرن الماضي مع الفصائل الخارجة على الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة لام أكول ورياك مشار وانتهت «اتفاقية الخرطوم» إلى الفشل وعاد القائدان المنشقان وبعض رفاقهما أدراجهما للحركة الشعبية، بعد أن اضطرت «الإنقاذ» لقبول مبادرة الإيقاد والتفاوض مع المتمرين «في الخارج» لننتهي الى مشاكوس ونيفاشا، فمن يدري قد تتكرر الحكاية ذاتها مع خليل وعبد الواحد خصوصاً بعد تململ مني ميناوي وتهديده بالعودة إلى الحرب؟! ü أما مسألة «تعزيز الأمن» على الأرض من خلال تدابير محكمة في مجال التعاون مع بعثة اليوناميد للقضاء على مصادر الانفلات الأمني وطمأنة المواطنين أينما كانوا، فهو محور يخاطب واجباً راتباً وحتمياً، فمن واجبات أي دولة تجاه مواطنيها هو توفير الأمن، لكن حكومتنا مضطرة أن تفعل ذلك بتنسيق مع القوات الإفريقية-الأممية المشتركة، استجابة لقرارات مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي تفرض عليها هذا التعاون، وليس في هذا جديد سوى الاحتكاكات التي برزت في الأسابيع الأخيرة بعد أحداث معسكر «كلمة» في جنوب دارفور إثر صدامات الرافضين والمؤيدين لمبادرة الدوحة. ü أما «تعجيل العودة الطوعية الآمنة والمستدامة» للنازحين وإعادة توطين اللاجئين وتقديم الدعم لهم، فذلك أيضاً مطلب قديم للحكومة وللاجئين والنازحين على حد سواء، لكن لا الحكومة استطاعت ان توفر لهم الأمن وإعادة التأهيل والتوطين، ولا ضحايا الحرب والنزوح استطاعوا التيقن والاطمئنان لإمكانية العيش الآمن والمنتج في ديارهم، لذلك ينظر لمسألة «تعجيل العودة» هذه من جانب الحركات المسلحة وبعض الناطقين باسم النازحين واللاجئين باعتبارها «مخططاً» لتفريغ المعسكرات، التي تنظر إليها الحكومة مثلما ينظر إليها العالم باعتبارها عنواناً شاخصاً لحقائق الأزمة وحجم آثارها وضحاياها. ü هناك أيضاً محور صيغ بشكل غامض وغير مفصل عن «العمل على تطبيق العدالة للجميع» من خلال الآليات الوطنية وبالتشاور مع كافة قطاعات مجتمع دارفور، بما يقتضي دفع التعويضات واسترجاع الممتلكات للضحايا وفقاً لروح «العدالة والمصالحة»، وبالرغم من أن الفكرة ليست جديدة، وأن المحاكم الوطنية التي تم إنشاؤها في أوقات سابقة لم نسمع الكثير عمّا فعلته لتحقيق العدالة، إلا أنّ طرق منهجية «العدالة والمصالحة» التي إذا ما أُخذت مأخذ الجد وخلصت النوايا يمكن أن تكون مدخلاً حقيقياً لتفريج كرب دارفور.. نعم لا جديد لافت في «استراتيجية غازي» الجديدة ولكنها محاولة للمراجعة والتقويم وإعادة الصياغة في ضوء المستجدات، حتى يستجد أمر جديد!