كثيراً ما نسمع قصصاً وحكايات حول الأرزاق أشبه ما تكون بالأساطير.. ومن ذلك ما كنت أسمعه من جدي- عليه الرحمة- وأنا طفل وهو يحكي للكبار.. وهذه القصص ما زالت مخزونة في ذاكرتي.. وكان يرمي من ورائها إلى أن الرزق مسطر ومكتوب ومحدود، ولكنه مع ذلك يعود ليذكر بأن الإنسان مطالب بالسعي من أجل الكسب.. ومن تلك الحكايات.. ما كان يحكيه عن رجل ذي ثراء عريض.. وعمل دؤوب لا يتوقف.. ولا يهدأ.. تقول الحكاية.. إن هذا الرجل تعب من العمل وكثرته.. فشكا إلى أحد أصدقائه.. فنصحه صديقه بأن يرسل إلى «حَظِّه» في وادي الحظوظ يطلب منه أن «يهدئ اللعب شوية.. كما نقول اليوم».. فاختار رجلاً فقيراً معدماً.. وعرض عليه المهمة مقابل مبلغ من المال «قل خمسين مثلاً» فرفض الرجل المعدم المهمة مقابل الخمسين وطلب «مائة».. فتركه الرجل الثري على أن يجد غيره.. ولكن الرجل المعدم فكَّر.. وقدَّر.. ثم فكَّر وقدَّر.. ثم قرر أن يقبل المهمة بالمبلغ المعروض عليه.. وعاد للرجل موافقاً.. غير أن الرجل الثري تراجع عن عرضه السابق وعرض عليه نصف المبلغ.. فأبى الرجل المعدم.. وتكررت العملية حتى وصلت إلى خمسة بدلاً عن الخمسين.. فقبل الثري وأعطاه «الخمسة».. ذهب الرجل المعدم إلى «وادي الحظوظ».. وأخذ يسأل عن حظ فلان.. فأشاروا إلى بستان كثيف الأشجار.. أخضرها.. وعندما بلغه.. وجد حظ الرجل الثري صاعداً على شجرة ذات ثمار يانعة.. وهو يحمل عصا.. يضرب يمنة ويسرة فتسقط الثمار كما تهطل المطر.. فصاح الرجل المعدم يخبر الحظ أن فلاناً يطلب اليك أن تريحه قليلاً.. فقد تعب من كثرة العمل.. فأجابه الحظ: قل له إن يعمل في «الجواهر» .. ثم سأل الرجل المعدم.. وأين حظي أنا؟ قال: أترى ذلك الشجر اليابس.. أنه هناك.. فذهب الرجل صوب الشجر اليابس.. وما كاد يبلغه.. حتى رأى شيخاً.. هزيلاً.. أعرج.. بيده ربابة بالية يعزف عليها.. سائراً نحوه.. وقبل أن يسأله الرجل بادره قائلاً: «تغفلني.. وتأخذ الخمسة من الراجل، بس ما حأخليك تهنأ بيها».. قفل الرجل عائداً.. فتعب من المشي.. فجلس تحت ظل شجرة يرتاح قليلاً.. تذكر تهديد حظه.. فأراد أن يطمئن على النقود.. فأخرجها من مخبئها.. وبينما هو يتفحصها هَبَّ إعصار عنيف.. فأطارها من يده.. «فذهبت مع الريح». وقصة أخرى كنت أسمعها من جدي أيضاً.. يقول إنها حدثت في عهد سيدنا موسى عليه السلام.. وهي أن رجلاً معدماً طلب من سيدنا موسى- كليم الله- أن يسأل الله أن يوسع له في رزقه.. تقول الرواية إن سيدنا موسى عندما كلم الحق عز وجل.. أجابه الله تعالى «تأدب يا موسى فهذا رزقه».. ولما أخبر سيدنا موسى الرجل.. اشتد به اليأس.. فأخذ زوجته وخرج بها من البلد.. فساقهم الترحال إلى بلدة.. وجدوا بها جمعاً غفيراً من الناس.. فوقف الرجل ليستجلي الأمر، فعلم أن هناك قصراً يُباع بالمزاد.. فوقف يستمع.. وعندما وصل المزاد مبلغاً كبيراً.. زاود عليه على سبيل التسلية أو قل «حراق الروح».. ولم يزاود عليه أحد فوقع عليه المزاد وهو لا يملك شيئاً.. وكان عليه أن يسدد المبلغ في اليوم التالي.. فأخبر زوجته بالأمر وقال: نقضي ليلتنا في القصر ونهرب باكراً.. فلا يرانا أحد.. وقضيا ليلتهما «وكأنهما في شهر عسل- هذه من عندي ولا تغيب عن فطنة القاريء».. ولما دخل الرجل «الحمام» ليغتسل.. لاحظ أن الماء يجري نحو جُحر في الحمام فتناول معولاً كان بالحمام.. وأخذ يحفر فإذا به يفاجأ بكنز.. عمل طول الليل على اخراجه.. وفي الصباح سدد قيمة القصر من الكنز.. واستقر بالقصر سيداً ذا مال وبستان يدر عليه ريعاً وافياً.. تقول الرواية: إن سيدنا موسى علم بالأمر وتعجب كثيراً وسأل الحق عز وجل.. فأجابه «تأدب يا موسى.. هذا رزق الجنين في رحم أمه» فقد حملت المرأة في تلك الليلة وجاء الجنين برزقه. هذا يذكرني بطرفة حدثت معي في جوبا قديماً.. فقد كنت أتعامل مع أحد التجار وأنا معلم بها.. فجئت مرة داخلاً عليه في محله فوجدته عابساً مكشراً- على غير عادته- فسلمت عليه وعلى شخص آخر أعرفه أيضاً ثم جلست.. قال الشخص الآخر.. ما باركت لعثمان.. قلت ماذا؟ قال «جابو ليه بنت» قمت ناهضاً منشرحاً وصافحته وباركت له.. ولكن صاحبه قال: «ما عرفت دي البنت الكم» قلت: الكم: قال صاحبه «الخامسة» قلت مسرياً عنه.. يا أخي خير وبركة.. البنت برزقها والولد برزقه.. فانفجر عثمان ضاحكاً بعد ذلك الاكتئاب وقال ذكرتني بحادثة حصلت عندنا في البلد.. فقد كان أحد الإخوان ينتظر مولوده الخامس الذي يتمنى أن يكون ولداً.. فسمع الزغاريد بعد أن ظلت زوجته «تتوجع» لساعات.. فاستبشر خيراً.. وجاءت أمه لتنقل إليه الخبر.. فقد رُزق بنتاً أيضاً.. وأخذت أمه تواسيه وتهون عليه قال عثمان.. وختمت مواساتها بعبارتك هذه «الولد برزقه.. والبنت برزقها» فرد عليها ابنها قائلاً «هي يا أمي.. كان جات برزقها.. أنا حاميها تقعد مع اخواتها».. وقصة سمعتها مرة من الشيخ علي الطنطاوي من خلال تلفزيون المملكة العربية السعودية.. وهي: أنه كان بسوريا قبل أن يلجأ إلى السعودية.. طُلب منه أن يشارك في مؤتمر بإحدى الدول.. قال فلما جئت مسافراً.. جاءتني أمي بكيس فيه ديك محمر وقالت لي خذه معك لتأكله في الفندق.. قال.. قلت.. لها نحن ننزل في فندق درجة أولى.. وكل شيء متوفر فيه.. ولا نحتاج إلى زوادة.. قال فأصرت إن آخذه معي.. فأخذته ترضية لها.. وسافرت.. وعندما وصلت الفندق.. تلقيت رسالة تفيد بأن المؤتمر قد ألغي.. وعليّ العودة فوراً.. ولما أردت التحرك إلى المطار.. أخذ عامل الفندق حقيبتي.. فرأيت الكيس بديكه فأخذته وقدمته له هدية.. فأخذه شاكراً.. تدبروا هذا الأمر.. الأم تصر على أخذ الديك.. يُلغى المؤتمر.. فيكون الديك من رزق العامل.. يوصله شخص رفيع المستوى من سوريا.. وعلى حساب الدولة.. وفي الحديث القدسي: «إن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها.. وتستوعب رزقها.. فاستعينوا بالله.. واجملوا في الطلب..» فالسعي مطلوب.. وما نراه اليوم من جشع.. وهلع.. وتكالب.. وجمع للمال وبكل السبل.. حتى غير المشروعة.. مخيف.. مخيف.. مخيف.