تقوم الحركة الإسلامية بحركة دؤوبة وسط قواعدها بعقد مؤتمراتها المختلفة الجغرافية والفئوية والقطاعية وغيرها من المؤتمرات. تنعقد هذه المؤتمرات وسط عراك داخلي ربما يصل إلى درجة المخاشنة أحياناً، وربما أحياناً تمارس فيه لعبة السياسة وحبائلها (القذرة) من إبعاد هذا وإشراك ذاك، وربما تمارس فيها «اللوبيهات» والتكتلات من تمرير للأجندة، ومن تصعيد هذا وإسقاط ذاك. ورغم هذا العراك والتدافع إلا أن الغالبية تقريباً تتحدث عن التغيير والإصلاح. ولكن للأسف الشديد أن معظم الذين ينادون بالتغيير والإصلاح لا يخرجون عن نقطتين جوهريتين هما تغيير الوجوه التي مكثت كثيراً في القيادة، والثانية هي محاربة الفساد. وربما الذين ينادون بالتغيير يريدون أن يعبروا عن ذلك بتعديل الدستور بحيث لا يمكث العضو في المنصب القيادي لأكثر من دورتين. وتبرز في هذا الحراك والمدافعة فئة الشباب والمجاهدين، والذين ينادون كذلك بالإصلاح، والذي يعني تغيير الوجوه ومحاربة الفساد، ويستخدمون وسائل جديدة ما كانت معروفة لدى عضوية الحركة الإسلامية، سواءً كان بكتابة المذكرات الموقعة، أو بعقد اللقاءات خارج أجسام الحركة الإسلامية، أو بالتنادي عبر المواقع الإلكترونية كالفيس بوك واليوتيوب. ويأتي هذا الحراك وسط متغيرات كثيرة على المستوى الإقليمي والمستوى الدولي، أهمها ثورات الربيع العربي والتي كان نتاج الإنتخابات فيها وصول التيارات الإسلامية في كل من تونس ومصر إلى السلطة، وهي مرشحة للوصول إلى السلطة في ليبيا واليمن، وربما بعد فترة قد تطول في سوريا. والملاحظ أنه رغم التعاطف الوجداني بين هذه الحركات في الدول العربية وبين الحركة الإسلامية في السودان، إلا أن هذه الحركات لا تريد أن تربط نفسها بالنموذج السوداني، ربما لوصول الإسلاميين للسلطة في السودان عن طريق إنقلاب عسكري، وربما لتأثير آلة الإعلام الغربية التي شوهت صورة التطبيق الإسلامي في السودان، الذي جعلت رئيسه مطلوباً للعدالة الجنائية الدولية متهماً بجريمة الإبادة الجماعية. ربما تأتي النظرة لهذا الحراك والتدافع من مراقب وباحث لا يمت بصلةٍ لأي طرفٍ من الأطراف المتصارعة، ويرى في هذا الحراك أملاً جديداً في أن ينشأ حراك فكري مختلفاً يولد رؤيةً جديدةً تقوم عليها إستراتيجية قومية جديدة للحركة الإسلامية، فهؤلاء الشباب الذين غطت عليهم النخب الخاضعة لحالة الوعي القديمة، أو الصفوة التي إنغمست في إدارة الدولة غير مسنودةٍ بزادٍ فكري أو بتنظير جاهز، هؤلاء الشباب الآن هم السلاح السِّري الذي يمكن به حسم تجربة ما يقارب ربع قرن في الحكم محسوبةً على الحركة الإسلامية، ومحاولة تحويلها إلى الُحلم والِمثال الذي كان يحلم به الآباء المؤسسون، الذين شغلتهم إدارة الشأن العام مضافاً إليه تخندقاً ربما يكون أوصلهم لمرحلة الشلل الكامل في صد هجوم ومؤامرات لم يتعرض لها أي نظام (قط) على وجه البسيطة إلا لأنهم قالوا إنهم مسلمون. وإذا كان الشباب هم السلاح السري الذي يدفع في إتجاه التغيير، إلا أنهم لا غنى لهم عن تجربة الآباء المؤسسون وفكرهم. وقد أدرك الجميع أن هنالك خللاً، ومن السهل جداً توصيف الحالة، ومن السهل جداً تحديد النجاح أو الفشل، ولكن من الصعب جداً توصيف العلاج. وفي تقديري أن المؤتمر العام هو الذي يفترض أن يجتمع فيه الجميع بتآلف وأخوة تهدف إلى الإصلاح، وهو ربما يمثل نقطة فارقة في تاريخ الحركة الإسلامية، ومن حكمها للسودان إذا تم توظيفه لهدف الإصلاح المجرد بعيداً عن الأهواء والمصالح الشخصية. وإذا كان قد أجمع المشفقون والحادبون إلى ضرورة الإصلاح الذي يتمثل في نقطتين جوهريتين كما ذكرنا هما تغيير الوجوه ومحاربة الفساد، ولكن أعتقد أن هاتين المسألتين هما ناتج عرضي لعدم الإجابة على أسئلة أساسية يفترض أن يجيب عليها المؤتمر، وهي: أولاً: الإجابة على السؤال الأساسي في وجود هذا الجسم الذي يأتمرون تحته الآن، هل تُحل الحركة الإسلامية أم تبقى؟. إستقامة الدولة الحديثة يقتضي أن يكون الجهاز التنفيذي منفذاً للبرنامج الإنتخابي للحزب، ولا يكون للحزب أي مشاركة في العمل التنفيذي. تكون الرقابة على الجهاز التنفيذي بواسطة البرلمان، والذي تكون الغالبية فيه من الحزب. ظهور الحركة الإسلامية بأي شكل من الأشكال، ومشاركتها أو إتصالها مع الجهاز التنفيذي ناهيك عن وجود إمارة لرئيس الدَّولة من غير الأجهزة المعروفة غير مقبول للمواطنين على الأقل في الوقت الحالي. التطور التاريخي لحركة الإخوان المسلمين في السودان لابد من أخذه في الإعتبار، الإخوان المسلمين، جبهة الميثاق، الجبهة الإسلامية القومية، ثم حل الحركة بين مؤيد ورافض، كان ذلك إجتهاداً، قبلت العضوية بكل المراحل السابقة، ثم كان الإختلاف حول الحل. لابد من الأخذ في الحسبان موقف (الشعب) في كل من تونس ومصر من وجود جماعة غير الحزب يأتمر الرئيس بأمرها ويخضع لإمارتها، الأمر الذي لم يجد قبولاً أو كان عسيراً على الهضم. هناك أربعة خيارات فيما يتعلق بأمر الحركة، الإبقاء بكل الصلاحيات، الإبقاء بصلاحيات محدودة، الحل، أن تسجل الحركة الإسلامية كحزب سياسي ويختفي المؤتمر الوطني. الإبقاء بكامل الصلاحيات في وجود حزب سياسي غير مقبول خاصة من المواطنين، ولا يستقيم مع النظام الديمقراطي، كما أنه يخلق إزدواجية تكون نتائجها كارثية على الدولة والتنظيم معاً. الإبقاء بصلاحيات أو مهام محدودة أهمها التجنيد، العمل الدعوي، الإجتهاد والجانب الفكري فيما يتعلق بمستجدات الحوادث، إعداد الكوادر في المجال السياسي وإدارة الدولة. الحل، وهذا يتماشى مع النظام الديمقراطي، ولكنه لا يجد القبول من عدد مقدر من العضوية، بعضها من ناحية عاطفية، والبعض ربما من جانب السلطة والتسلط. تسجل الحركة الإسلامية كحزب سياسي وذوبان المؤتمر الوطني فيها يواجه بمشكلة وجود عضوية غير منتسبة للحركة الإسلامية وربما تكون غير مسلمة. نعتقد أن الإبقاء بكامل الصلاحيات في وجود واجهة سياسية هي المؤتمر الوطني، والحلان، غير واردين في الوقت الحالي، يبقى على المؤتمر الوطني أن يختار بين الإبقاء على صلاحيات محدودة تحديدها حصرياً أو تسجيلها كواجهة للحزب السياسي. ثانياً: ماهي المرجعية الفكرية التي تقوم عليها دولة الحركة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين؟. بعد ما يقارب ربع القرن في الحكم، لم نتحرك قيد أنملة فيما يتعلق بالبحوث الفكرية والإجتهاد لمطلوبات الدولة الحديثة، إستلمنا السلطة من غير تنظير فكري للإجابة على كل مطلوبات الدولة، ومازلنا كما بدأنا لا نملك إلا رصيداً من التجربة ناتجاً عن طريق المحاولة والخطأ. كل من كلف بإدارة شأن تنفيذي يترك لنفسه إلا من موجهات عامة أحياناً، فيجتهد برأيه ولا يألو. لا يعني ذلك أنه لا يوجد تخطيط للدولة، كانت هناك خطط ثلاثية، وخماسية، وربع قرنية، ولكن هذه لا تختلف ولا تميز حزب الحركة الإسلامية عن أي حزب آخر مثل الأمة والإتحادي الديمقراطي وغيرهم وغيرهم. مازالت المرجعية الفكرية هي الفكر التقليدي، ولا تستطيع الحركة الآن الخروج على الخط التقليدي أو السلفي من دون المواجهة بنقد عنيف، وربما إتهام بالزندقة. هذا القصور في الجانب الفكري والتقليدي ترك مساحة واسعة للفكر التقليدي والسلفي للإستقطاب والتجنيد. المطلوب من المؤتمر تكليف مجموعة من المفكرين والعلماء وتكليفهم حصرياً بإعداد بحوث فكرية لمطلوبات الدولة الحديثة وفق مرجعية: المرجعية الإسلامية. المعارف الإنسانية. القبول الدولي والإقليمي. مراعاة الظرف الزماني والإثني والجغرافي للسودان. تقوم اللجنة بالإجتهاد في كافة المجالات اللازمة لقيام الدولة الحديثة والمعاصرة التي تستصحب المرجعيات الأربعة في المجالات الآتية: في مجال الحكم والسياسة، لابد من الإجتهاد في تحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، الذي نمارسه الآن لا يميز الحركة الإسلامية عن أي حزب آخر، أو بالأحرى هي نقل للنموذج الغربي من دون إخضاعه للفكر والموروث الإسلامي، ولابد من الإجابة على وضعية الأحزاب السياسية حاكمة ومعارضة، ومدى شرعية أن يكون لهذه الأحزاب أجهزة خاصة تمتلك السلاح؟، وكيفية تداول السلطة؟، وماهي الوسيلة لذلك؟، وهل يكون النظام رئاسي أو برلماني؟، وهل يسمى الرئيس رئيساً أو ملكاً أو أميراً أو خليفة؟، وماهي مدة بقائه في الحكم؟، مدى الحياة، دورة ،أو دورتين؟. وفي المجال الإقتصادي، ماهو النظام الذي يجب إتباعه؟، ليبرالي، رأسمالي، إشتراكي؟، مع الأخذ في الإعتبار فشل تلك الأنظمة في بلدانها، ماهي مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها؟، كيفية التعامل مع المؤسسات الإقتصادية الدولية؟، الرؤى الفقهية في سعر الفائدة؟. وهكذا في كافة متطلبات الدولة الحديثة، في مجال الفنون والآداب، في مجال التعليم ونظامه وفلسفته، في مجال العلاقات الخارجية، وفي المجال الإجتماعي بكافة تعقيداته، وفي المجال الأمني (القوات المسلحة، الشرطة، الأمن) للأسف كل هذه المجالات أخذنا بها كما هي من الغرب، وغاية ما نستطيع فعله أو قوله هو (أن هذا عندنا من قبل أربعة عشر قرناً) هذه المسائل الجوهرية التي يفترض أن يجد المؤتمر والحركة الإسلامية الإجابة عليها، وللأسف ليس الإشكال عندنا في السودان، ولكنه إشكال ستواجهه كل الحركات التي وصلت للسلطة، والتي سوف تصل للسلطة في العالم العربي. كان من المفترض أن تجد عندنا هذه الحركات الإجابة الفكرية والنظرية والتطبيقية لكل ما يحتاجون إليه، ولكن للأسف مازلنا في هذا الجانب في تاريخ30/6/1989م)، فهل تكون في هذا المؤتمر الإجابة على هذه الاسئلة وغيرها؟. ثالثاً: ماهي الموجهات العامة للدستور؟. نعلم أن هناك لجنة من الحزب تعمل على توافق تاماً حول الدستور، ونعلم كذلك أن هناك لجان فنية تعمل على إعداد مسودة للدستور. والذي يجري في هذا الجانب هو جزءاً من إمتداد التجربة السابقة الخالية من التنظير الفكري والإجتهاد. مطلوب من هذا المؤتمر أن يحدد الموجهات العامة للدستور لإستقامة الأمر من جديد، ولابد أن نفرق بين ثلاث مراحل في حياة الدساتير. فالمرحلة الأولى هي مرحلة وضع الدستور، وهي المرحلة التي يفترض أن يكون فيها إجماع على وضع الدستور. الدستور يفترض أن يجد كل مواطن فيه نفسه، سواءً كان حركة إسلامية أو علماني، مسلم أو غير مسلم. صحيح أن 98% من الشعب السوداني مسلم، لكن هذه صفة عامة، ونعلم في داخل هؤلاء ال 98% إختلافات كبيرة، هنالك الصوفي، وهنالك السلفي، وهنالك الحركة الإسلامية، وهنالك من لا ينتمي لهؤلاء جميعاً. وقد لا أغالي إذا قلت أن كل ولاية من ولايات السودان لها صفتها الإسلامية المميزة، صحيح أنه لا يوجد خلاف حول الفروض والواجبات والأوامر والنواهي، ولكن هناك إختلاف كبير في الفهم للدين في عامة الحياة، والذي إرتبط بتقاليد تلك الولايات، إذا لم نقل القبائل، وهذا هو المفترض أن يجد إحترامه في الدستور، كما أن هنالك المجتمع الإقليمي والدولي الذي لابد أن نحسب حسابه ونحن نضع الدستور. لقد كان هنالك إجتهاد فكري مقدر قامت به الحركة الإسلامية، في دستور 1998م، وفي دستور 2005م الإنتقالي، ومثال ذلك ليس من بين شروط تولي رئاسة الجمهورية أن ينتمي إلى دين معين، أو إلى عرق معين، أو أن يكون ذكراً أو أنثى. كذلك كان هنالك إجتهاد فيما يتعلق بأن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، كما تضمن وثيقة حقوق الإنسان في باب منفصل في الدستور، ولكن كل ذلك يجب أن يتم وفق توافق فكري يقبل به الجميع، ووفق إجتهاد معلن شفاف ينشر على الملأ في الداخل والخارج. كذلك لابد من حسم هوية الدولة وطريقة الحكم. وقد إنعقد في الإسبوع الماضي في الدوحة مؤتمر (الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي.. تجارب وإتجاهات)، الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدولة، والذي حضره زعماء للحركات الإسلامية وممثلين لها في معظم الدول العربية. وقد برزت من خلال نقاشات المؤتمر العديد من الأفكار والرؤى بشأن ما يتطلبه الواقع الجديد للحركات الإسلامية في ظل التحول الديمقراطي المأمول في أعقاب ثورات الربيع العربي. وإحتلت مسائل المواطنة والتحول الديمقراطي حيزاً مهما من نقاشات المؤتمر. وتحقق شبه إجماع لدى المشاركين ! بمن فيهم ممثلو الحركات الإسلامية ! أن التحول الديمقراطي في الدول العربية يجب أن يتجه إلى إقامة دولة ديمقراطية أو دولة مدنية كما سماها البعض، حتى لو كان الإسلاميون على رأس السلطة، مركزين على مبادئ الحرية والعدل والمساواة كأساس لهذه الدولة. هذا ما يفترض أن يجيب عليه المؤتمر، ويمكن الإستعانة بما قدم في ذلك المؤتمر من أوراق ومحاضرات. ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الثانية من حياة الدستور، وهي مرحلة الصياغة، وهذه يقوم بها «فنيون قانونيون»، وهذه لا توجد فيها مشكلة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الإجازة، والتي يفترض أن تجاز بغالبية (الثلثين). فإذا تم التوافق في المرحلة الأولى فلا توجد مشكلة في المرحلة الثالثة. هذه بعض القضايا الرئيسية التي يجب أن يجيب عليها المؤتمر، وهي أساس المشكلة، وفي الإجابة عليها تكون الإجابة على النواتج العرضية كتغيير الوجوه والفساد وغيرها. هنالك الكثير من الأسئلة التي تحتاج للإجابة عليها بواسطة المؤتمر لحساسيتها، ليست هي مجالاً للنقاش في الصحف من خلال هذا المقال، ومعظم العضوية الفاعلة التي تفكر في مصلحة الحركة الإسلامية تدركها. أتمنى أن يكون هذا المؤتمر هو نقطة التحول في مسار الحركة الإسلامية تعديلاً لكل السلبيات، وتأكيداً على كل الإيجابيات. وهو على الأقل واحدة من الفرص الكثيرة التي نتعرض لها ونبدع في إضاعتها، أتمنى أن نهتبل هذه الفرصة ولا نضيعها لأن في إضاعتها ربما تكون النتائج في غير ما نتمنى ونرضى. أتمنى أن لا ينشغل المؤتمر بالنواتج العرضية ويترك العلل، أتمنى أن تكون (العرضة) داخل (الدارة) ولا (نعرض) خارج (الطار)