لقد كنت أنوح وأبكي «بي طول حسي» كلما غنى حمد الريح تلك المناحة الباكية.. المترعة بالحزن.. المحتشدة بالشجن.. المسربلة بحلوكة الظلام.. المدفونة في أكوام التراب والرماد.. ابكي كما طفل انتزع من ثدي الحليب عندما يصل حمد الريح الى: أصابح بكرة كيف العيد وعايش فرقتك هسه كان ذاك عن الفراق.. فراق حبيبة.. فراق إمرأة.. حتى لو كانت المرأة النخلة.. إذن كيف يكون النواح والبكاء والتمرغ و«الدردقة» في التراب عندما يهل العيد.. عيد الفداء والوطن تظلل سماءه سحب الغبار وأفقه مشتعل بالجحيم.. جراء ضربة جوية ماكرة وغادرة.. وتبلغ المهانة والشعور بالعجز والاذلال عندما تكون الضربة من الكيان الصهيوني الغاصب العنصري «الكريه». نعم اجتاحتنا سيول المهانة، وأغرقت مراكبنا أمواج الإذلال، ولكن كان غضبنا أكبر وأفدح وسماء الوطن تتفجر كلاماً وحروفاً وتصريحات وتهديداً وتوعداً من كل من شاء حظه العاثر أو حظنا نحن الذين ابتلانا الله بأن يكون مسؤولاً في هذا الوطن النبيل.. عشنا وما زلنا نعيش في ظلال فوضى عارمة، وغابة كثيفة من التصريحات، أحدهم يتحدث عبر الفضاء الذي ينقل همس الحجرات الموصدة الى كل بوصة في الأرض، يتحدث عن قدرة الوطن- والذي هو السودان- على رد الصاع صاعين الى «دويلة» اسرائيل.. ومسؤول يتوعد اسرائيل بالحصار المحكم متباهياً بأنهم في هذا الوطن قد حاصروا أمريكا في مرة سابقة.. وآخر يتحدث عن وجوب شراء منظومة رادارات وشبكات رصد وشبكة منظومة للرأس 300 وكأن الرجل يملك مفاتيح خزائن «وول ستريت»، أو كأن السودان كان أحد أطراف «حرب النجوم» نعم هذه هي المهانة، هذه هي الفوضى التي اشتد أوارها وسط حرائق وألسنة لهب مصنع اليرموك.. ولكن لم العجب؟ وما معنى هذه الدهشة.. وما مبرر ذاك الغضب.. ألسنا جزءاً أصيلاً من الوطن العربي.. ذاك الذي ظل يقاتل اسرائيل منذ عام 48 بسلاح القصائد، والشتائم، وجداول السباب، وأبيات الشعر، وزخرف النثر البديع والسجع الأنيق.. أرأيتم كيف نخدع أنفسنا بالانتصارات الزائفة تلك التي تسجلها لنا صفحات الصحف نثراً وشعراً ومدائح وقصائد.. ألم تهلل الشعوب العربية، وترفع البيارق، وتعزف المعازف.. تدق الطبول وترقص في الشوارع ابتهاجاً بانتصارات متوهمة إبان حرب اسرائيل مع حزب الله في قلب لبنان التى مسحت فيها القنابل الاسرائيلية قرى لبنانية من الوجود.. إن أهوَّن شيء بالنسبة لأمة العرب هو تزييف التاريخ، ليس ذاك المدفون في مجلدات غابر السنين.. بل حتى التاريخ الذي نعيشه ونشاهده وحرائقه لم نزل نراها.. ونشتم رائحة الشواء.. ولا بأس من إيراد شاهد من صنعنا يكشف كيف نحن أيضاً نزور التاريخ.. كيف ذلك.. أنا أقول لكم إنه وفي كل يوم من أول كل سنة ننشد كلنا في فرح معربد مع قيثارة الوطن البديع وردي.. اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطرالتاريخ مولد شعبنا.. نظل نهدر بها في فرح طير طليق، حتى عندما نصل الى أكبر أكذوبة ومغالطة فاضحة للحقائق على الأرض، وعكس ما يحكي عنه التاريخ نصل الى: كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية.. خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية.. والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانية.. ما لان فرسان لنا بل فرّ جمع الطاغية.. وبالله عليكم.. هل فر جمع الطاغية؟ ألم يتقدم جمع الطاغية بقيادة كتشنر حتى اجتاح أم درمان.. ألم يجثم جمع الطاغية ذاك على صدر الوطن الجميل منذ 1898 وحتى1/1 / 56 أم هو النصر الذي نصنعه!! ولكن فقط على الورق؟..