في برنامج تقدمه الإذاعة القومية إسبوعياً عن السياحة.. سمعت كلاماً استحق التوقف عنده.. قال المتحدثون إن ظاهرة الكرم السوداني واستقبال الضيوف بهذه الحفاوة يعتبر واحداً من معوقات السياحة.. فالسائح يدعم الإقتصاد بما يصرفه على انفاقه من مواصلات وسكن وطعام.. لكننا خاصة في المجتمعات الريفية والبدوية نكفى السائح تماماً.. فنقوم بايوائه.. ونمنحه الطعام والشراب.. وقد نقوم بإيصاله إلى مشاويره كلها.. وذكر أحد المتحدثين إنهم صحبوا وفداً من السياح.. لم يطعمهم أهل القرى التي مروا بها فحسب.. بل حملوهم طعاماً على سبيل الهدية يكفيهم لأيام.. وعادي جداً من ينحر لهم كرام الكباش والعجول إكراماً لهم.. وذكر متحدث إنه لايجد أي مقابل حين يسافر إلى أوروبا.. وضرب مثلاً بأنهم ذهبوا لتغطية معرضاً دولياً في ألمانيا بدعوة.. ولكن كان عليهم تدبير أمر سكنهم وطعامهم مما كلفهم الكثير.. هذه (ورطة) إذن.. فهل نمنع الناس من الكرم مع السواح.. هل نستطيع أن نبث رسائلاً يكون مؤداها: الكرم مع السواح يدَّمر الأقتصاد.. كن كريماً إلا مع السائح.. إن كانت تلك واحدة من مشكلات السياحة فإن مواجهتها تتطلب حكمة ودراسات ومناقشات.. لكن مثلاً في معظم الأرياف لا توجد فنادق أو دور إيواء مناسبة للسواح ربما لوتوفرت لأختارها السائح فإن كرم السودانيين بالإيواء والإطعام ومتابعة أمور الضيف السائح قد يكون فيها انتهاك لخصوصياته.. أيضاً لا توجد مطاعم وكافتيريات سياحية بالمعنى السياحي الذي يوفر للسواح الوجبات التي يريدونها.. فقد يكون ذلك أوعى للمحافظة على الصحة خاصةً إن الطعام ثقافة.. أذكر أننا كنا في رحلة إعلامية إلى واحدة من مناطق السودان في غربه.. وبقينا هناك لمدة أسبوع.. أرهقنا جداً الكرم الفياض.. والدعوات المتلاحقة والتي لوقمنا بتلبيتها كلها لما أنجزنا شيئاً من مهمتنا.. وكانت المنطقة تتوفر فيها اللحوم.. وكان يقدم لنا بكثافةٍ على صوان مليئة بلحم الضان (الما خمج)..أكلنا اليوم الأول والثانى بعد ذلك توقفت عن أكل اللحم.. وأكتفيت بالفواكه واللبن.. وكانت المنطقة تتميز بإنتاج برتقال جميل وسريع التقشير.. فكنت أشتري منه كميات والتهمها في الطريق.. لكن بدأ للبعض أنني متأفف من طعامهم فيبدو إن في قاموسهم لا أحد يرفض أكل اللحوم.. هذا يشير إلى أن السواح قد يعانون من نفس هذه المشكلة.. لذا فقد يكون إطعامهم بهذا الكرم مضايقاً لهم ..أو يسبب لهم سوء هضم.. أو إنهم لا يستسيغونه.. إذاً فليس الكرم وحده هو المتسبب في هذه المشكلة بل عدم تنوع الطعام.. وعدم وجود بنيات تحتية للإيواء والترفيه لهؤلاء السواح لكن السؤال الذي يطرحه الموقف هل بعض عاداتنا الإيجابية كالكرم والتضحية والإيثار تحتاج إلى مراجعة.. هل تخطى العصر تلك القيم؟ أم أن هنالك مداخل إيجابية يجب أن نتبناها حتى لا نفقد مروءتنا وفي نفس الوقت نماشي روح العصر وقديماً قال المتنبى: الجودُ يفقرُ والإقدام قتالُ.. المشكلة في إعتقادي أن ننهض بالسياحة أولاً ونستثمرها.. ولا نخشى عليها من كرمنا.. فقد يكون سبباً في ضخ سياح جدد يحضرون ليروا حقيقة الكرم الذي يحدثهم عنه من سبقهم إلينا.. فيكون الكرم أثراً سياحياً.. لن نطالب بإلغاء الكرم لأنه يؤثر على اقتصاديات السياحة وإلا طالبنا بإلغاء التكافل والتراحم بيننا حتى يعجل بربيع سوداني حيث تزداد رقعة الجوع.. والجوع (بِقَوِّمْ الثورات).. يظل الشعب السوداني متفرداً بصفات عربية صميمة.. انفض عنها حتى العرب.. وظللنا نحن حراس بوابات الشرف العربي والحكمة العربية ورفضنا فكرة إذا مِت ظمآناً فلا نزل القطرُ. ُ وانحزنا لفكرة فلا هطلت على ولا بأرض سحائب ليس تنتظم البلاد!