السودان هذا البلد العربي الإفريقي الذي يدين غالبية أهله بالإسلام، تمكن من نيل استقلاله في الأول من يناير 1956م بعد مجاهدات كبيرة مع المستعم، على يد أبنائه المخلصين الذين ضحوا في سبيل استقلاله بالمهج والأرواح، ولم يكن من أهدافهم من يحكم هذا البلد، ولكن كان رائدهم أن تنال بلادهم استقلالها وحريتها متحلين بنكران الذات والتضحيات التي كانت تبذل لرفعة الوطن وتقدمه. كان السودان في الخمسينيات والستينيات رمزاً لكثير من الدول الإفريقية والعربية من خلال أداء أجهزته الإدارية والعدلية والاقتصادية والزراعية والتعليمية لما يتمتع به من رجال أكفاء تسلموا إداراتها من المستعمر، وأسهموا بقدر وافر في تقدمه ورخائه، ولكن بعد سنوات قليلة من هذا الاستقلال أعترت السودان ظاهرة غريبة في التحول من مساره الوطني النضالي المتمثل في الإيثار ونكران الذات إلى الأنانية وحب الذات والأطماع الشخصية فتدهور بعدها كل الأداء في كثير من مجالات العمل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأصبح الفرد لا ينظر إلا إلى نفسه ودائرة أعماله الخاصة، مما ترتب من الممارسات السالبة في المجتمع ناهيك عن قيم الدين التي كانت تهيمن على المجتمع السوداني. الآن السودان في مفترق طرق، إما أن يكون بلداً محافظاً على قيمه وموروثاته الحميدة.. وإما أن ينزلق إلى ما لا يحمد عقباه وتكون النتيجة ضياع القيم النبيلة التي نسعى اليها.. لقد كانت لنا في رسول الله أسوة حسنة فقد أخذ رسولنا الكريم من بداية دعوته في بناء المسلم القوي الأمين القابض على دينه وقيمه وأخلاقه، ويحضرني هنا قول الشاعر.. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت إن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. كثير من الناس يعتقدون بأن الحكومات هي التي تبني الأمم، وأنا أقول إن الأمم تبني نفسها بأخلاقها وقيمها وموروثاتها ومجاهداتها في ترقية مجتمعاتها، والنهوض بها إلى أعلى المستويات.. وخير مثال كيف يقود الشعب بلاده إلى مرافئ التقدم حينما يمنح فرصة اختيار ممثليه في البرلمان أو الذين يتقدمون لحكم البلاد حينها لابد أن يتجرد الشعب من نظرته الضيقة المتمثلة في القبلية والعنصرية والحزبية، وينظر إلى ما هو أكفأ ومخلص وأمين لقيادة البلاد، وتصبح المعادلة الحقيقية أن الشعب هو الذي يحكم وليست الأحزاب أو من يزكي نفسه لقيادة البلاد. السودان الآن يحتاج إلى وحدة وطنية حقيقية يتجرد فيها كل المواطنين من الإنتماءات الحزبية والقبلية والعنصرية، ويرفعوا شعار (بناء الوطن خيارنا) وهذا النداء لكي يتحقق لابد من السعي الحثيث وسط كل المثقفين والوطنيين في الأحزاب المختلفة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وذلك بإقامة الندوات وبث الروح الوطنية بين الناس، ونبذ كل أشكال التفرقة التي أقعدت الوطن لسنوات طويلة. إن مهمة الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة لابد أن تسعى لنشر وبث القيم النبيلة بين الناس، وعكس التضحيات التي بذلت في سبيل هذا الوطن من الرجال الأوفياء الذين خلدهم التاريخ. إن هذا الإرث يصب في بوتقة الوحدة الوطنية التي يجب أن تتحقق بصورة عاجلة حتى لا يتفتت هذا الوطن. إن كثيراً من بلاد العالم إسلامية وغيرها كانت لهم قدوة من الرجال لقيادة بلادهم، مثل المهاتما غاندي، ونيهرو في الهند، وماتسي تونج في الصين، وهوشي منه في فيتنام، والقائد محمد علي جناح في باكستان، وجمال عبد الناصر في مصر، ومهاتير أحمد في ماليزيا، وجورج واشنطن وإبراهام لامكولن في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وونستون شرشل في بريطانيا، ونكروما في غانا وجومو كنياتا في كينيا، ونلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وكثيرون غيرهم ضحوا في سبيل أوطانهم ونالوا التأييد من شعوبهم. نحن في السودان لابد أن نتفق على رؤية واضحة وسياسات حكيمة لخدمة هذا الوطن وتقدمه، ونتفادى هذه الخلافات التي أقعدته سنوات طويلة، وكبلته من الانطلاق لتحقيق حياة كريمة لمواطنيه، إن ظاهرة الخلافات لا تخرج من كونها شكلية فمثلاً ماذا نسمى أحزاباً مسلمة تختلف في الدين وجماعات أخرى تطلق الإتهامات ضد آخرين ليس فيها مصلحة للوطن، ولكن لتحقيق أغراض ذاتية لا فائدة منها إذا ما علمنا أن الدين الإسلامي يجمع ولا يفرق، يدعو إلى التسامح والحكمة والموعظة الحسنة. لقد دعوت من قبل إلى عمل عهد وميثاق يلتزم به الشعب ممثلاً في أحزابه ومكوناته ومنظمات المجتمع المدني كافة، للعمل الدؤوب لإخراج الوطن من هذا المأزق والنهوض به إلى مرافئ التقدم والإزدهار. والله أسأل أن يوفق أهل السودان لما فيه الخير والسداد üمدينة الأزهري- الخرطوم