راي: د. عبد الرحيم عبد الحليم محمد كانت تشكيلة من الخواطر تعربد في الذهن والطائرة الأمريكية تمرِّن عضلات أجنحتها هبوطاً في مطار سيمون بوليفار الدولي في كراكاس.. كان معي صديقي القادم من قرية كدباس مذعناً يومها للريح في جمجمة البحر الكاريبي، أنا وهو جمعنا درب الله حين يكون قدرك أن تختم غربة طويلة مضنية على ضفاف الخليج العربي، لتبدأ أخرى على ضفاف المحيط الهادي، أنا وصديقي الكدباسي جمعتنا غربة الخليج ويجمعنا الآن هذه الدرب الطائر، أنا في مهمة عمل وهو في مهمة تجارية يزاولها بين الخليج وهذه الدولة، تأملنا موسيقى الأسمين كدباس وكراكاس ومفارقة الاختلاف القدري بين طين خلقت منه قرية يظلها النيم والهجليج والعشر ومدينة تغسل شعرها الحريري يومياً في البحر الكاريبي، وتتمايل أعطاف غيدها على أنغام موسيقى «الصلصة».. تلك موسيقى ترجع أصولها وجذورها للأجداد الأفارقة الذين أرسلوا إلى منطقة البحر الكاريبي من قبل أسبانية كعبيد.. وفي كراكاس التي تتمشى الثقافة الأسبانية في مفاصلها تختلط أصناف الموسيقى، فمن رومبا كوبية إلى تأثيرات اسبانية وأفريقية، حيث يبدو الأثر الموسيقي في الطبل الأفريقي الهادر أسلوباً مميزاً تعج به المزارات الفنية في المدينة، في كدباس كما قال صديقي ترتبط الصلصة بصواني الضيوف وطقوس الإيلام للفقرا.. حيت يتمشى الذكر في مفاصل القرية وتتمايل أجساد الذاكرين على أصوات المديح النابعة من بحر الدين، في كدباس الغارقة في ليل الذكر، الرجعى إلى رب العالمين، وزهد يتبدى بين موسيقى الاسم والفقر.. وفي كراكاس تتبدى نعم الثراء النفطي ولكن بفقر ظاهر، حين تأتي الى أرقام الاقتصاد وقدرة الدولة على بعث القوة النفطية في جسد الأرض، ومعاول الزراع ومقاييس التنمية البشرية.. وهنا تستوي كدباس لا نفط لها مع كراكاس لديها نعمة النفط الذي لا يبدو أنه غيَّر حياة الكثيرين في هذا القطر النفطي.. إن الإحساس بالنعم حالتان منقلبهما الى الله تعالى فهو المنعم.. قبيل الهبوط ترى كيف تمارس غادة البحر الكاريبي فوضى الخضرة، وكيف أنها ترتدي «اسكيرت» من لون البحر و«بلوزة» من خضرة الغابة الاستوائية الداكنة. شعر الغيد الحريري وفوضى الخضرة وأنغام الرومبا والصلصة، وتماوج النسيم على البحر الكاريبي، ورائحة النفط، لم تعصم هذه الدولة منذ أن تقلد رئاستها هوجو تشافيز عام 1998م من سخونة الجو السياسي بينها وبين الولاياتالمتحدة، منذ أن بدأ وهو الذي جعل الولاياتالمتحدة هدفاً مفضلاً لسياسته اليسارية منذ أن بدأ إجتماعاته العالية المستوى عام 2002 مع صدام حسين، مستضيفاً في ذلك العام الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي ومحيياً جهود بلاده في تحدي الولاياتالمتحدة، ومثمناً أهداف برنامجها النووي... لربما لا تكفي فقط المصالح الاقتصادية بين الدول.. فالولاياتالمتحدة التي تعتبر ثالث مستورد للنفط الفنزويلي، لم تتمكن من الجام فرحتها عندما أزاح انقلاب قصير في أبريل من عام 2002م الرئيس تشافيز وعندما عاد لم تسلم يومها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس التي كالت لنظامه النقد والسباب من أقسى عبارات الشتم، في الحالة الفنزويلية، يبدو أن الولاياتالمتحدة لم تقنعها رائحة النفط القادم من هناك، طالما كان هناك نظام رائحة الشيوعية فيه أقوى وأنفذ من رائحة النفط، ولم يكن خافياً للمتابعين في هذا الشأن، كيف أن الولاياتالمتحدة ظلت وفية للجارة كولومبيا التي يا طالما كالت سيول الاتهام لفنزويلا بايوائها معارضة مسلحة ضدها.. إن الولاياتالمتحدة التي ظلت تلعب دور القائل «سهر الرئيس تشافيز ولا نومه» تعرف أن تشافيز «تور قرنو ماكن» ولديه من المال والسند الشعبي ما يعصمه من طوفان أية عقوبات كسيف تشرعه الدولة الكبرى في وجه الذين يقفون أما سياط سياستها العولمية، كالرئيس تشافيز. ربما لم تكن الولاياتالمتحدة سعيدة بعودة تشافيز في ثوب العافية، وربما ربط المهتمون بالسياسة بين ابتسامة الرئيس الفنزويلي وهو على فراش المرض مع ابنتيه في كوبا قبيل عودته الى بلاده، وبين ابتسامته قبل سنين وهو يرى الرئيس الأمريكي جورج بوش يتوارى أمام عدسات العالم من خط سير حذاء الصحفي العراقي الزبيدي، صاحب الحذاء الذي وصفه الرئيس تشافيز يومها بالشجاع.. في تقديري والله والساسة أعلم أن الابتسامتين وإن تباعد مداهما الزمني وغرضيهما، لكن يربطهما سياق واحد هو أن بسمة الرئيس الفنزويلي والتي حملت ثوب السخرية في سياقها الأول وثوب العافية في سياقها الأخير، فقد حان وقت السخرية الكاملة من تشافيز إذ يرى الآن الدولة العظمي تترنح كالمخمور تحت وطأة الدين والبطالة، وتقلبات الطقس ليس جغرافياً وبيئياً فحسب، وإنما في المزاج الفردي للموظف الأمريكي الذي يحبس أنفاسه الآن في مختلف مواقع الحكومة الفدرالية في انتظار قرار الكونجرس بشأن ما يعرف بالحجز المالي، كإجراء تلجأ إليه الحكومة فيما يشبه «مصادرة» حجم كتلة المال العام الهائلة للوفاء باستقطاعات الميزانية المعلنة، ومن ثم ينفتح الباب أمام المخدمين الفيدراليين لمنح القوى العاملة إجازات بالغياب الإجباري خصماً على مرتباتهم في اتجاه تحقيق قرار الحجز المالي المذكور. ربما أفاق العالم، والرئيس تشافيز يتجه الى أداء يمين جديد على يوم تصحو فيه الزهور الكراكاسية في مواسم، ويتمكن الرجل اليساري القوي من إسعاد أمته ليقنع أمريكا بأنه «تور قرنو ماكن» في منطقته، وأنه ليس بالمذاهب وحدها تبنى الشعوب، إذا ما سلمنا بخطل النظرة الأمريكية للتوجهات اليسارية لإدارة الاقتصاد في عصر العولمة.. نحن على أي حال نرى النموذج الصيني رغم عقيدته الشيوعية يناطح دولة كأمريكا في ميدان القدرة التنافسية، بينما تدخل هي يدها في جيوب موظفيها لردم فجوة نراها هائلة بين أقوال الساسة وأفعالهم في الولاياتالمتحدة.. تماماً كالفجوة بين كدباس وكراكاس والله أعلم!!