إستعرضنا في الحلقة الفائتة، الخلفية التاريخية لطرائق إختيار حكام وولاة الأقاليم والولايات منذ تبني خيار الحكم اللامركزي في السودان، وأشرنا إلى أن عملية الاختيار (الذي يشمل التعيين والإنتخاب)، تدرجت من التعيين المباشر من قِبل رأس الدولة، مروراً بالإنتخاب غير المباشر عبر كلية انتخابية خاصة، وإنتهاء بالاقتراع الحر المباشر بوساطة ناخبي الولاية المعنية، كما حدث في انتخابات 2010م الأخيرة، والتي تمخضت، ولأول مرة في تاريخ السودان، عن ولاة للولايات منتخبين دون أن يكون للحكومة القومية أو لرأس الدولة دور في اختيارهم وبالتالي إعفائهم. ومن حيث المبدأ، فإن الانتخاب الحر النزيه المستوفي للمعايير الوطنية والدولية، هو الوسيلة المثلى والأقرب للنهج الديمقراطي، وللحكم الراشد، بيد أن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا، يتعلق بملاءمة الديمقراطية المعيارية النمطية، لسائر المجتمعات، بغض النظر عن الخلفيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية لكل بلد. ولتوضيح الصورة أكثر، نقول إن المشكلة لا تتعلق حقيقة بمبدأ انتخاب الوالي، لكنها ترتبط بطريقة الانتخاب، وأيضاً بكيفية مراقبة أداء الوالي المنتخب ومحاسبته سياسياً ودستورياً، ذلك لأن من الضمانات الأساسية في دولة القانون، وجود آليات للرقابة على الأداء التنفيذي، حتى لا يجنح الحكام إلى الغلو أو الاستبداد، لا سيما وأن السلطة المطلقة المتحررة من أية ضوابط وكوابح، تشكل أخطر المهددات للحقوق والحريات العامة، ولسيادة حكم القانون، فضلاً عن كونها أوسع المداخل للظلم والطغيان وربما الفساد. وبالنظر إلى نصوص دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م، لا نجد أية علاقة مؤسسية واضحة بين رئيس الجمهورية والولاة، إذ لا يد للرئيس في الإختيار، ولا سلطة له في الإعفاء، أو حتى قبول الاستقالة، وبالتالي يفتقر المسؤول التنفيذي والسيادي الأول في البلاد، لأية قدرة على ضبط الوالي المنتخب اذا جنح أو تنكب الصراط المستقيم. قد يقول قائل إننا نحكم بنظام رئاسي يتمتع رئيس الجمهورية فيه بصلاحيات واسعة النطاق، لكن المتأمل لهذه الصلاحيات في الدستور سوف يلاحظ أنها قد نص عليها- في ما يلي الولاة- بعبارات فضفاضة وحمّالة أوجه، وهي تتعلق باختصاصات عامة، لا إشارة خاصة فيها للعلاقة مع الولاة. وقد وردت هذه الاختصاصات في المادة (58) من الدستور، وهي المادة التي عددت صلاحيات رئيس الجمهورية السيادية والتنفيذية والتشريعة، ولقد صُدّرت المادة بديباجة وصفت الرئيس بأنه (رأس الدولة والحكومة، ويمثل إرادة الشعب وسلطان الدولة، وله في ذلك ممارسة الاختصاصات التي يمنحها له هذا الدستور). بعد هذه الديباجة توالى ذكر المهام المناطة بالسيد رئيس الجمهورية، والذي يهمنا منها هنا ما جاء في الفقرتين (أ) و (ب) من أن من مسؤوليات الرئيس أن (يصون أمن البلاد ويحمي سلامتها) و (يشرف على المؤسسات الدستورية التنفيذية في البلاد). ومما لا شك فيه أن هذه النصوص، تعطي الرئيس حق بل واجب الإشراف على أداء الولاة والاطمئنان على حسن سير إدارتهم لولاياتهم، وهذا الاجراء الراتب يقوم به الرئيس ونوابه يومياً عبر القنوات المعتادة واللقاءات والتوجيهات الفردية والعامة، بيد أن الاشراف هذا، يقصر في مداه عن مرتبة إتخاذ قرار باعفاد الوالي أو عزله، ذلك لأن الدستور قيد ممارسة الرئيس لمهامه بأن تكون وفق الدستور، وهو ذات الدستور الذي حدد وبصورة قاطعة وعلى سبيل الحصر كيفية عزل الولاة، والتي لا تخرج عن خيارين لا ثالث لهما، الأول عبر سحب الثقة بمبادرة من المجلس التشريعي للولاية بمقتضى أحكام المادة (179) من الدستور، والثاني بوساطة لجوء الرئيس إلى سلطاته بموجب المادة (211) (ب)، التي تجيز للرئيس عند إعلان حالة الطواريء الحق في حل أو تعليق أي من أجهزة الولاية. واذا اخضعنا الخيارين المذكورين للتمحيص والتقويم والتحليل الموضوعي، فسوف نكتشف ان كليهما يعاني من عوامل ضعف عضوية أو صعوبات عملية أو اشكاليات قانونية. بالنسبة لطرح الثقة في الوالي عبر المجلس التشريعي فالصعاب تتلخص في الآتي: أولاً: من الناحية الفقهية الدستورية، كيف يجوز لمؤسسة كالمجلس التشريعي الولائي، عزل مسؤول في قامة الوالي لم تقم هي بانتخابه أصلاً، الأمر الذي يخالف القاعدة الأصولية في فقه القانون وتفسيره، ان من يملك سلطة التعيين أو الاختيار هو الذي يتمتع بصلاحية العزل. ثانياً: إن الأغلبية المطلوبة لسحب الثقة.. أغلبية خاصة وعالية جداً (4/3 جميع أعضاء المجلس)، وهي تفوق الأغلبية البسيطة (الترجيح) والأغلبية المطلقة (50% زائد واحد)، وفي الظروف العادية يصعب الحصول على هذه الأغلبية. ثالثاً: إن قوة المركز السياسي والتنفيذي للوالي الذي ينتمي إلى ذات الحزب وثقله المعنوي، تجعل من المستحيل في غياب ضوء أخضر من السلطة القومية. أو القيادة السياسية للحزب، نجاح أي مجلس ولائي في التخلص منه، وهذا ما يفسر عدم اقدام أي مجلس تشريعي ولائي حتى الآن على إسقاط والٍ منتخب رغم تواتر عوامل السخط وعدم الرضا. من حيث الواقع العملي فإن انتماء جميع الولاة الحاليين لذات الحزب وهو المؤتمر الوطني، يعطي الحزب القدرة على تجاوز الصعاب المذكورة أعلاه وذلك عبر استخدام ادوات الضغط السياسية على الوالي أو على أعضاء المجلس أنفسهم، وبالتالي اذا رأى الحزب أن يزيح الوالي أو يستبدله فالطريق الأسهل هو أن يطلب منه تقديم استقالته، وكفى الله المؤمنين شر القتال، لكن الأمر يغدو أكثر تعقيداً اذا كان الوالي لا ينتمي إلى الحزب الحاكم، وهذا الاحتمال وارد في الفترة القادمة اذا حدث توافق سياسي أو تنازل الحزب الحاكم عن بعض المقاعد لحلفائه. في الاسبوع القادم نواصل بمشيئة الله..