في عموده المقروء (خارج الصورة) طرح الأستاذ عبد العظيم صالح إنطباعاته عن زيارته الأخيرة إلى جوبا.. بمعيّة الوفد الإعلامي المرافق لرئيس الجمهورية.. وأعادتني كلماته الرشيقات إلى خواطر قديمة.. عن جنوبنا الحبيب الذي فقدناه. السودان وجنوب السودان أمّتان، كانتا رتقاً ففتقتهما السياسة بمعادلاتها الغبيّة.. وحين يكون الحديث عن الجنوب، تأبى الكلمات أن تنقاد، لترسم لوحةً وجدانيةً مؤثرة تتشكل ملامحها من تداخل التاريخ والجغرافيا والذكريات. تحتشد حروف اللغة، وتتواثب أدوات التعبير.. عن زخم كثيف من العواطف والمشاعر والإنفعالات.. وترتسم في الخاطر وجوه ودودة سمراء، وتنفتل إلى سطح الذاكرة أسماء لرفاق من أبناء الجنوب، جمعتنا بهم دروب الحياة.. في تقاطعات جمعت كل مكونات (السودان القديم).. من حلفا إلى (نمولي)، ومن الجنينه إلى بورتسودان، ومن الدمازين إلى دنقلا. عرفنا (منقو زمبيري)، ولويس بول، وعيسى مارسيليو ولاكو تومبي، ورمضان إيرما.. وسبيل تميم فرتاك.. وآخرين كثيرين كما ، أن أسماء لامعةً لجنوبيين كبار تتردد في أصداء الذاكرة الجمعية لرجالٍ من جنوب السودان شاركوا في صياغة تاريخ السودان.. أبيل ألير ولويجي أدوك وجيرفس ياك.. ومن قبلهم بوث ديو وأزبوني منديري وجوزيف قرنق.. وآخرين كثيرين أيضاً. أما (منقو) فهو صديقنا القديم، الذي عرفناه وزرناه في (يامبيو) البعيدة- ذات يوم بعيد- بل زاره كل الأقدمين من تلاميذ مدارس السودان من (سنة رابعة أولية)، في دروس الجغرافيا عبر كتاب (سبل كسب العيش في السودان)، ضمن زيارات لأصقاع عديدة من سوداننا القديم. في (يامبيو) كان ينتظرنا صديقنا (منقو)، وهناك - بغرب الإستوائية- جلسنا إلى صديقنا وأهله وجيرانه، وأكلنا معهم (البفره) وشربنا لبن الأبقار، ولهونا بثمار المانجو.. والتهمنا بعيوننا مشاهد ساحرة في جمال الطبيعة لاتزال محفورة في عمق الوجدان. ومن خلال كلمات الأستاذ عبد العظيم إرتحلنا إلى دنياوات كانت تنتظم سوداننا الحبيب- قبل كارثة الإنفصال- كانت الأواصر الإنسانية الدافئة- تتمدّد فيها بين بني السودان على اختلاف البيئات وتباين الأصول وتباعد الأماكن.. قبل ثلاثين عاماً، جمعتني فترة تدريبية حافلة- في معهد بخت الرضا- بزملاء وأصدقاء من جنوب السودان، ضمن (كورسات) جمعت معلمين من كل أنحاء سودان ذلك الزمان.. من حلفا وسنار، ويامبيو وحجر العسل، ومن كادقلي وهمشكوريب وكان المعهد في ذلك الزمن الجميل بوتقةً واسعةً، تنصهر فيها كل ملامح السودان الكبير، في علاقات متشابكة تجاوزت حدود المديريات والأقاليم، وأقتحمت فواصل القبليات والأثنيات، وهزمت إحداثيات المكان والزمان. ومع إشارات (صدى الزيارة) لجوبا، تستقيظ في خواطر الناس ذكريات العلاقات الإنسانية المجردة من إنتماءات السياسية والمبرأة من تنازعات الأحزاب.. وتتردّد في تلافيف الوجدان أبيات أستاذنا الراحل عبد اللطيف عبد الرحمن: منقو قل لا عاش من يفصلنا قل معي لاعاش من يفصلنا نحن روحان حللنا بدنا.. كان (لويس بول) واحداً من أولئك الدراسين الذين عاصروا سنواتٍ تدريبيةً متعددة، مما أتاح له أن يعرف أناساً كثيرين ينتمون إلى مختلف بقاع السودان، وكان إسمه مشهوراً في أوساط المعهد. تفتحت عيناه على الحياة في (واو) واحتضنته ضفاف (بحر الغزال) وشهدت الخرطوم بواكير أيام شبابه.. وأنخرط في سلك التدريس وحملته أقداره إلى (بخت الرضا).. وكان أول من التقيته عندما وطئت أقدامي مرسى (بنطون الدويم).. ذات ظهيرة (مسخنة) من أيام شهر يوليو 1985م وسرعان ما تعارفنا، وذابت بيننا الحواجز منذ الوهلة الأولى.. وتعازمنا حول صحن من (الويكة)، غطست فيه (طرقات الكسرة) في واحد من تلك (الأكشاك)، التي علمت - فيما بعد- أن صديقي لويس كثيراً ما يغشاها: يأكل فيها، ويتمشى بين أزقتها.. وله فيها مآرب أخرى!. كانت الدورة التدريبية على وشك الإنتهاء، وكنا نستعد لمغادرة الدويم وبخت الرضا عندما فاجأني صديقي (لويس) بأنه حين يعود إلى مدرسته- في واو- سيقوم بتدريس(التربية الإسلامية)!! سألته : كيف ذلك وهو المسيحي الملتزم- الذي يؤكد مسيحيته بالغياب عن المحاضرات يوم الأحد- ضحك صديقي كثيراً وهو يسألني: «إنت مش حلفاوي ماشي تدرس لغة عربية»؟!.