لا يمكن عزل الأوضاع في الشرق الأوسط عن الوضع في السودان، وبخاصة قضية تقرير المصير، حيث تسحب الولاياتالمتحدة قواتها القتالية من العراق، وفقاً لجدول زمني يحفظ لها ماء الوجه، وذلك بعد أن ترنحت تحت هجمات المقاومة العراقية، فما يعد بكل المقاييس هزيمة محققة للاحتلال الأمريكي، الذي يخرج من العراق دون احتفال رسمي أو شعبي كمحرر وهمي له، كما تتلقى القوات الأمريكية ضربات موجعة في أفغانستان، وقد صار محتوماً أن تفكر الإدارة الأمريكية في سيناريو الخروج الذي يحفظ كرامتها.. هذا بينما الإتهامات بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وسائر جرائم، الحرب تلاحقها، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، فهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. أما السياسة الأمريكية بالتوصل إلى حل جزئي، وكأنه قنبلة موقوتة، للقضية الفلسطينية، كغطاء للتفرغ للملف الإيراني النووي، وذلك مع تصاعد قوة المقاومة في لبنان وغزة، وربما تلحق بهما الضفة الغربية، لغير صالح إسرائيل الحليف الاستراتيجي. وأما الحرب الأمريكية الشاملة على الإرهاب، بالمفهوم الأمريكي الذي يخلط بينه وبين المقاومة المشروعة، ويستثنى إرهاب الدولة الذي تمارسه هي وحليفها الاستراتيجي، هذه الحرب إنما تتعرض للنقد من داخل أميركا وتثير التساؤل عن جدواها، حيث بات تنظيم القاعدة يجند كل يوم إلى صفوفه أجيالاً جديدة أكثر وعياً، مع تصاعد الحرب الأمريكية والإسرائيلية على المدنيين الآمنيين العزل، من الأطفال والنساء والشيوخ، ممن دعت القوانين الدولية لحمايتهم. في ظل هذه الهزائم الأمريكية الخارجية، ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية النصفية، باتت الإدارة الأمريكية في حاجة إلى انتصار وهمي، ولو موقوت، فاختارت قضية تقرير المصير للجنوب هدفاً لها، حتى إذا آل تقرير المصير إلى الانفصال، أدعت الإدارة الأمريكية أنه من صنعها أو بتأثيرها.. من هنا انطلقت إعلانات الإدارة الأمريكية مؤخراً بالإغراءات للجنوب بتغليب خيار الانفصال، وبالتحذيرات للشمال من تعويقه.. وذلك بعد أن ظلت الإدارة الأمريكية تقوم بدور الوسيط من شريكي الحكم، كدولة كبرى شاهدة على اتفاقية السلام الشامل، فبدأ هذا الدور في البداية حريصاً على وحدة السودان، بمثل تصريح أمريكي بأنها لا ترغب في ميلاد دولة فاشلة في الجنوب، ثم تحول الوسيط إلى وجهه الآخر، بتصريح وزيرة الخارجية الأميركية هاري كلنتون بأن تقرير المصير يمثل (قنبلة موقوتة) وبأن (الانفصال محتوم)!!. صحيح أن الإدارة الأمريكية ظلت، من وراء ديبلوماسيتها المعلنة كوسيط، تدعم الانفصاليين من الجنوب، ولكنها لم تصادف موقفاً وحدوياً متعنتاً من السلطة السودانية، وإنما صادفت معها الموقف التصالحي التسامحي، سواء بالالتزام بانفاذ اتفاقية السلام الشامل، أو بإجراء الاستفتاء في موعده، أو بتقبل نتيجته مهما كانت، احتراماً منها لإرادة الجنوبيين الحرة.. وذلك عن التزام بمبدأ الوفاء بالعقود والرعاية للعهود، مما يفرضه عليها دينها ووطنيتها، بل إن السودان سيكون أول دولة تعترف بالدولة الجديدة في الجنوب إذا إختار الجنوبيون بحرية إراداتهم الانفصال. لا عودة للحرب بين الشمال والجنوب، هكذا صرحت الحكومة بلسان رئيسها مراراً وتكراراً، دونما حاجة لضغوط أو إغراءات خارجية، ولذلك فإن التصريح الإمريكي بأن تقرير المصير سيكون (قنبلة موقوتة) لا قيمة له على الإطلاق، وقد نزعت الحكومة السودانية فتيل تلك القنبلة الموقوتة منذ التوقيع على الإتفاقية، قبل خمس سنوات، وذلك بالحوار المتصل بين الشريكين حتى تقرير المصير، فلا حاجة لتدخل خارجي، أمريكي، يشعل الحرب مرة أخرى بين الشمال والجنوب، بالقنابل الموقوتة التي تتوهمها الإدارة الأمريكية، وهي تبحث عن موطيء قدم في بؤرة ساخنة أخرى. ما يجمع بين الشماليين والجنوبيين من روابط اجتماعية واقتصادية هو أكبر مما يفرق بينهما في تقرير المصير، ولذلك فإنه سيكون في الحقيقة، وعلى أسوأ الفروض، انفصالاً سياسياً (هو جار الآن)، مع تكامل اقتصادي، ربما تصاعد إلى وحدة اقتصادية.. مصير الجنوب والشمال آجلاً هو الوحدة، وهو مصير التكتلات الاقليمية في القارة الأقرب إلى الكونفدرالية، بلغة المصالح إن لم يكن بلغة المشاعر. أسجل نحو الختام احترامي لرأي السيد جوزيف لاقو في ندوة جرت مؤخراً بلندن، بأنه يفضل أن يكون اسم الدولة الجديدة، لو وقع الانفصال هو (جنوب السودان) على غرار جنوب أفريقيا، حتى يظل الباب موارباً أمام عودة الجنوب إلى الوحدة مع الشمال، فهو لا يعدو أن يكون اصطياداً في الماء العكر، يدل على الابتعاد كثيراً عن مصالح البلاد العليا، وتغليب ما هو حزبي على ما هو وطني في هذا الظرف التاريخي الحاسم.