يتواصل رصد وتوثيق تاريخ تلك (الأقلية الباسلة) من أبناء حلفا الذين رفضوا الهجرة من موطنهم القديم الى خشم القربة أو أي مكان آخر!! متمسكين بما بقي امامهم من تراب وتراث، ولم يكن غائباً عنهم انهم بقرارهم الخطير قد وضعوا أنفسهم في فوهة البندقية كما وضعوا قضيتهم في مواجهة نظام عسكري صارم بصم على اتفاقية حملت في طياتها حكماً باعدام مدينة جميلة عريقة وقرى حبيبة وادعة ظلت رابضة على الحدود كقنطرة تنساب عبرها الحضارات، وكواجهة مشرقة لسودان ذلك الزمان. وقد تعرض هؤلاء المواطنون لحرب قذرة وصلت حد حرمانهم من أبسط المقومات الانسانية الأساسية حين تخلت حكومة عبود عن مسؤولياتها تجاههم بمنشورها الشهير الصادر في نوفمبر 1963 والذي أعلنت فيه الحكومة أن البقاء بحلفا سيكون محفوفاً بمخاطر بيئية وصحية وأنذرت اولئك الذين لم ينصاعو لسياسة الدولة بأن عليهم وحدهم أن يتحملوا تبعات إختيارهم، وتوالت قرارات الحاكم العسكري معتمد التهجير وممثل الحكومة فأعلن سحب الخدمات الصحية، واغلقت حتى نقاط الغيار والشفخانات. وتكريساً لسياسة بوليسية ورعناء تواصلت الضغوط على المواطنين، وامتد بطش الحكومة إلى حد الحصار التمويني يوم صدرت الأوامر لجميع محطات السكة حديد بالسودان تمنع قبول اي إرسالية مشحونة الى حلفا القديمة، وانهت الدولة خدماتها التعليمية، بل امتدت بها العزة بالإثم حين حولت مدرسة حلفا دغيم إلى قشلاق للبوليس بعد طرد التلاميذ والمعلمين، وانتشرت حملات الإعتقال والنقل والتشريد للقيادات الشعبية، وتم تحديد موعد لقطع الخط الحديدي الذي كان الوسيلة الوحيدة الرابطة بين تلك المنطقة الذائبة، وبقية أجزاء السودان الشاسع، وأصبح ذلك الموعد هو النهاية الرسمية للمواطنة، حيث كان مقررًا أن تتخلى فيه الدولة عن مائة وخمسين كيلومترًا من الأراضي، وعن خمسة آلاف مواطن ومواطنة أمامهم صحراء النوبة والعتمور ببردِّها القارس وحرارتها اللافحة، وتضاريسها القاسية ومن خلفهم بحيرة هادرة تتمطى، وتنتشر تبتلع الأخضر واليابس. لكن المقيمين واجهوا جبروت السلطة، وطغيان الطبيعة بمزيد من التحدي، فتكونت جبهة المقاومة السرية، وصدرت صحيفة صوت حلفا وأنشئت جمعية حلفا دغيم التعاونية المتعددة الأغراض كمظلة سياسية واقتصادية انضوت تحتها قدراتهم المحدودة من بقايا تعويضات جائرة وتشكلت لجان للتعليم والصحة والأغراض العامة، وأقاموا حكومة شعبية فريدة ترعى مصالحهم، وتتحدث باسمهم وتنظر في منازعاتهم، وتم تأمين مخزون تمويني من المواد الضرورية، واشترت الجمعية (لوريين) لربط المنطقة بالسكوت والمحس ودنقلا فأم درمان.. وافتتحوا مدرسة خاصة في بيت من بيوت الأهالي، وتطوع أبناؤهم وبناتهم للعمل كمعلمين مقدمين أنفسهم لخدمة أهلهم الذين تهيأوا لمواصلة النضال ضد السلطة والطبيعة في آن معاً ،فقد تزامن التعسف الحكومي الضاغط مع تزايد مياه السد العالي وارتفاع الأمواج التي بدأت تزحف والناس أمامها يرتحلون من مرتفع لآخر، كلما داهمهم الطوفان!! يحملون بقايا أنقاض من الخشب والزنك و«الجرِّيد» يعيدون بها بناء المسجد والمدرسة والشفخانة والنادي، ثم يبحثون عن مأوى لصغارهم.. وتواصلت هجراتهم عبر مراحل أربع إلى أن استقر بهم المقام في جوف الصحراء على بعد سبعة عشر كيلو مترًا جنوب شرق مدينتهم الغارقة . وبرغم كل ما يقال عن ضعف تجاوب الرأي العام السوداني مع قضية حلفا !! ومأساة أهلها!! فقد أخذت تلك القضية مكانها في تاريخ النضال السوداني ضد حكومة نوفمبر العسكرية. وكان أهالي حلفا هم أول من خرجوا في مواكب هادرة واندلعت مظاهراتهم الصاخبة تملأ سماء الخرطوم وعطبرة وبورتسودان وكوستي وود مدني، وارتفعت أعلامهم السوداء ترمز الى الِّحداد على أرضهم، وتعالت شعاراتهم الشهيرة (حلفا دغيم ولا لبنان) (حلفا حلفا تبقى حلفا) (لن نتخلى عن وادينا) منذ نهايات العام 1963 تجسدت في تلك الأصقاع النائية من بلاد السودان إرادة شعبية صلبة لم تتراجع في مواجهة السياسات البوليسية الرعناء التي مارستها السلطة، واشتدت حركة المقاومة لما انضمت اليها وتبنتها قوى اليسار السوداني التي كانت تناطح حكومة نوفمبر، وقد تجلى ذلك الاحتضان واضحاً في تعاطف الحزب الشيوعي، ونقابة عمال السكة حديد، واتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وقد أسهمت تلك المشاركات المقدرة في تأجيج المسيرات الغاضبة التي انطلقت هنا وهناك تميزها مشاركة المرأة النوبية بزيها التراثي التقليدي الأسود (الجرجار). ولا ينسى المقيمون بوادي حلفا وهم يستقرئون تاريخ كفاحهم تلك الوقفة البطولية التي وقفتها نقابة المحامين السودانيين، يوم أن وافقت على تبني قضية أهالي حلفا ضد حكومة السودان في مسألة التعويضات الظالمة التي فرضتها مقابل ممتلكات المواطنين غير المهاجرين وأراضيهم ونخيلهم، وهي التعويضات التي قصدت بها الحكومة تصعيب خيار التمسك بالوطن الأم، وظلَّت تلك القضية أمام المحكمة العليا لحين اندلاع ثورة 21 اكتوبر 1964، والتي شهدت الشهور السابقة لها أحرج مواقف ملحمة بطولية.. وكانت تلك بدايات قصة أخرى.. سنحاول الوقوف عند بعض تفاصيلها باذن الله.