نواصل في تفاصيل هذه الحكاية ، وهي من حكايات الخرطوم عاصمة الثقافة العربية (02005م ). كثافة الترويج أيقظت فينا آمالاً في مضمار طباعة كتاب وربما لأول مرة سنجد دعماً حكومياً!!. عشت هذا الحلم ودخلت ثملاً بالعشم على (المسؤول).. كأنني وجدت لأول مرة من يفهم دوافعي ويقدر معاناتي . رحب بي وشجعني اهتمامه ولكنه عندما علم أنني أبحث عن فرصة لطباعة كتاب أجيز من قبل لجانهم .. صمت قليلاً ثم نظر إلىَّ ببرود وقال : لماذا تتخذون كتابة الكتب مهنة .. ألا ترون أن الكتابة مضيعة للوقت !! استيقظت على الوهم ولكن ظلمة الواقع لم تخترقني كثيراً ، لأنني كنت محصناً بكم هائل من الفرح الكاذب التي كانت تبثها إعلام الحكومة . كان علي أن أكمل المشوار لأنني لم أكن مستعداً لدلالات هذه الصدمة . ما كنت أريد أن أتخلي عن الحلم الذي بناه الترويج الكاذب في وعيي ، رغم الدلالات الواضحة لاستحالة أن نجد «ثقافة» من مثل هذه النماذج. سألت صاحبي وكأنني لم أسمع ما قاله : ما هي شروطكم للطباعة . قال : ثلاثة آلاف نسخة وللمؤلف ثمانمائة !! أسعدتني هذه الشروط الصعبة لأنني كنت في موقف من يستجدي السعادة والأمل بأي ثمن وبهذه الإفادات رمم عشمي القديم وخرجت. إرادة الحلم القديم عاودتني كأنني لم أر وأسمع شيئاً واصلت في تجهيز الغلاف وغيره من زيادة وتنقيح بشهية مفتوحة . كنت بالفعل مصراً على أن الحلم بالقوة ولكن أيضاً كانت تزورني الهواجس السوداء القديمة من وقت لآخر ، حتى إنني أحياناً كنت أرى صورة المسؤول في مخيلتي ، كأنه مصاص دماء « دراكولا » انفرد بطفل في حجرة مغلقة. بدأت مراسيم الافتتاح ، وانتشرت الزخارف وقد بلغت أوجها في الأوبريت الذي صور تاريخ السودان من خلال عشرات الأصوات بأزيائهم المختلفة. الافتتاح الباذخ والترف الذي رافق فصوله ، كان على حساب ميزانية العام كله ، لهذا لم يكن هناك مناشط ذات قيمة إلا في هذا الافتتاح ، ( الأوبريت هي الثقافة ) هكذا عرف المسؤول معني الثقافة وقد كان محقاً. بعد إنتهاء الافتتاح عدت مرة أخري لصاحبي «المسؤول» في صندقته الخشبية ذات الطلاء البائس والأزقة الضيقة . ويا للهول .. هذه الواجهة الكئيبة وجدتها تخفي في داخلها مقاعد وثيرة في غاية من الأناقة . هذه النقلة الحادة من الواجهة القبيحة إلي الداخل الأنيق ترينا بوضوح مدى الإرتباك الذي صاحب التخطيط والتنفيذ والتمويل . المكتب أشبه بمجلس عمدة في البوادي الريفية النائية قد تجد . قطيه من القش في داخلها أدوات مصنوعة من الأبنوس اللامع! سلمت عليه وقبل أن أجلس ويبدو أنه كان قد حفظ صورتي قال : قروش مافي !! هكذا ببساطة شديدة دون مراعاة لحلمي الذي كان قد تضخم بعد عملية « الأجازة » من قبل لجنة النصوص. قلت في نفسي لأسكت الغضب الذي كان قد بدأ يمور في داخلي : ماذا يعني هذا ؟ نظرت إليه ووجدته ينظر إليً ومتعة الانتصار بين لمعان عينيه .. ظل في نشوة ينتظر جوابا.ً وعندما لم يجد مني جواباً ، بدأ يتكلم عن نفسه أنه (متهم بالشيوعية) ولكنه في الأصل حزب أمة قلت : في نفسي كل الأقوال صحيحة : شيوعي في المزاج الشخصي ، (وأنصاري ) في أسواق السياسة وفي الأحوال الأخرى غير منتمي لجهة سوى ذاته!! هذه النماذج إذا وجدتها في سدة الحكم والمسؤولية دائماً إرهاص لزوال العهود ، لأنهم دائماً يؤدون الأدوار الأخيرة قبل الزوال . قلت في نفسي أيضاً : واضح أن صاحبي هذا ، يمهد الآن للقفز من المركب الغارق وقد استشعر الغرق !! ولكنه أليس في هذا نوع من الذكاء يمكن أن يضاف إلي مؤهلاته الشخصية !! مسكينة أيتها (الإنقاذ) تنفقين المليارات ولا تجدين كوادر يروجون لك الله (يا ثقافة) أصبح الغراب دليلها..! استيقظت من هذه الهواجس ووجدته قد انشغل بغيري ، ورغم ذلك كنت أقرأ فيه من حين لآخر ، ابتسامة باهتة لم أفهم منها شيئاً ، لأنني كنت قد انقطعت عنه. رغم انه ذهب بعيداً في التلاعب بأحلامي وتطلعاتي ، كنت مصراً على أن لا أصحو من متعة الوهم !!. سألته : هل ما زلتم عند شروطكم القديمة في مضمار طباعة الكتب ؟ قال : وهو ينظر تجاه فتاة مسترخية في إحدى المقاعد الوثيرة ، وتجاه موظف كبير السن كان يجلس في ركن قصي محتضناً تربيزة صغيرة ، ليست من فصيلة الأدوات في المكتب ( أنا بطبع ألف نسخة ونصيبي منه ((800 نسخة. أي أن نصيب المؤلف ((200نسخة فقط !! بوادر النشوة ( بالذات ) واللامبالاة التي كانت قد ظهرت باستحياء في الزيارة الأولي ، بلغت هذه المرة حد الاكتمال والتكلم صراحة بصيغة (الأنا). لم أجد في هذا أمراً جديداً يستحق الالتفاف فمواقع الدولة كلها مليئة بمثل هذه النماذج ، ولكن الجديد الذي ظهر بجلاء ، هو مسألة التلاعب بمعايير الحقوق علناً . مرة يقول ثلاثة آلاف وأخري ألف نسخة فقط ، بل شروط قاسية قد تجد أرحم منها في الأسواق . أصابتني فورة غضب لم أتذوقها من قبل . صرخت في وجهه لأول مرة :هل هناك مبدع يحترم نفسه الأول يقبل شروطك هذه؟ ببرود عجيب قال نعم !! قلت : من هم ؟ أشار إليً موظف يجلس في الركن القصي المعتم ، بأن يعرض عليً أسماء مؤلفين قبلوا بشروطه تلك ، ولكن قبل أن يكمل كلامه ، قفزت الفتاة من مقعدها وصرخت : الزول ده منو عشان توروه .. لم استطيع أن استبين أول الأمر لمن توجه كلامها لبروز تجاعيد وجهها من شدة الغضب. لم أتوقف كثيراً أمام جرأة «فتاة المكتب» لأن كل شيء كان ممكناً هنا، ولأن غيظي كان قد خبا ، عندما رأيت كومه من كتب رديئة الطباعة في ركن خلف مقعد المسؤول الكبير. فتح الموظف المسكين دفتراً كبيراً ، متسخ الصفحات كإحدى كراسات تلميذ بليد ، وطفق يقلب الصفحات في عجالة . ولعله كان في حيرة من أمره: أيستجيب للرئيس أم للفتاة الغاضبة .. توقف عن تقليب الصفحات كمن كان يبحث عن مخرج ، عندما رفعت صوتي هؤلاء كتاب من الأربعينات والستينات .. ألم تجدوا ما تطبعونه لمبدعين معاصرين ؟! بدأ يشرح لي معاذير تعود أن يلقنها للزوار مثلي ، وربما من نبراته تفهم بأنه هو نفسه لا يصدق ما يقول : من أنهم يقومون بتغطية المجالات كلها ، للقدماء نصيب وللمبدعين الجدد نصيب ..! كان لزاماً عليً أن أتركه وهو منهمك يلوك أعذاره ، لأن الرئيس لم يكن مقنعاً ناهيك عن موظف .. والأهم من هذا أن الطبعات الرديئة للكتب الملقاة هنا وهناك ساعدتني لأ زهد في خدمات ( عاصمة الثقافة ) التي سماها أديب معروف ( بقاصمة) الثقافة وقد كان مهذباً لأن الحقيقة كانت ( عاصمة السخافة )! وأنا أغادر مبني وزارة الثقافة عادت إليً أحلامي القديمة ، خاطبت نفسي : هذه النماذج في ( ثقافة الخرطوم ) من هفوات الغربال ، والخراب رهيب ، رهيب ولكن لا يجوز أن نفقد الثقة في الحياة ، وربما كانت هناك نماذج رائعة من موظفي (عاصمة الثقافة) لم نصادفها !! .. وعيش يا حمار .