هذه الوقفة من حكايات (الخرطوم عاصمة الثقافة العربية) حدثت قبل سبع سنوات. ودون أن نبحث كثيراً في معاني المصطلحات مثل: ماذا نعني بالثقافة العربية.. وحكاية (العاصمة دية)، ننتقل إلى القول أن الفكرة في الأصل كانت مستوردة. أعاصير العولمة الاقتصادية في الثلاثة عقود الأخيرة دفعت المجتمع الدولي لتعيد الروح إلى (الثقافة) باعتبارها متضررة من طغيان الماديات على سلوك الإنسان!. انطلقت محاولات أحداث هذا التوازن المنشود منذ بداية الثمانينات، وكان لابد من تحريك الركود الثقافي في المجتمعات المتخلفة. ويالها من مهمة عسيرة يجب أن لا نتواني في الإشادة بها، مهما كانت الإخفاقات!! ومنذ أن جاء دور اليمن في عام (2004م) بدأت الحكومة السودانية تروج لعامها المقبل (2005م) تحت عنوان (الخرطوم عاصمة الثقافة العربية)!!. للحقيقة والتاريخ التبني الحكومي كان ناجحاً في مرحلة الترويج ، رغم تندرات الجماهير التي كانت منطقية في عدم تصديقها ! ولا ندرى سبب هذا النجاح! هل هو سهولة مرحلة الترويج التي تعتمد تماماً على العمل الإعلامي؟ أم هو لغة الأموال والميزانيات التي فتحت في بداية التجربة؟!! أياً كان السبب بدأت التجربة الثقافية كأنها ناجحة، وكاد أن ينهزم المعارضون أمامها وبدءوا ينكأون الجرح بأسئلة مثل: هل يمكن أن تكون هذه العاصمة قبلة للعرب وثقافتهم؟ والقمامة تنشر في شوارع الخرطوم. وكان هناك من يقول ليس بالضرورة أن يتم تجميل الطرق والبنايات والبنية التحتية لينطلق الإحتفاء بالثقافة العربية. إذا توفرت شروط أخري كالإنسان المثقف في الإدارة والتخطيط والشفافية. يمكن أن تنطلق الثقافة حتى من الأزقة والأحياء الفقيرة! لم يكن المنطق الأخير مقبولاً لأن غياب الثقافة هو سبب هذه القمامة. فالتساؤل الذي كان يجب أن يدور في رأس هؤلاء هو ما هو نصيبنا نحن السودانيين من هذه الثقافة؟. هل وسط هذا الخراب المريع، وبين هذه الأنقاض يمكن أن نجد «الإنسان» المعافى الذي يدير ويخطط وجمهور يقدر وينفعل؟!! جسامة المسؤولية، وخطورة المهمة، تتطلب إنسان استثنائي شفاف بعيد عن وسط هذا الظلام الدامس. هل نملك مثل هذه النماذج؟ بل هل تستطيع الحكومة أن تنتدب لها حملة على هذه المواصفات؟ إرهاصات الفشل كانت تزاحم بشارات النجاح في بداية الطريق، ثم ما لبثت أن سيطرت تماماً في نهاية المطاف، ولعل السبب غياب التمويل- إن كان بسبب قطع الضخ الحكومي أو سوء التصرف- اجتمع مع المشكلة الأساسية وهى غياب الإنسان النموذج في القمة والقاعدة!. غياب الأموال في المراحل الوسطى والأخيرة لعام الثقافة كشف سوأة غياب الإنسان المثقف في الإدارة. ولأن (الإنسان) هو سبب الأزمة تعالوا نقرأ تداعيات غيابه!! بدأت سلسلة الإخفاق من الحكومة التي كان لايهمها من العملية، سوى الترويج لشعاراتها في الأوساط الثقافية.. لهذا انتدبت موظفين ووفرت لهم التمويل، واكتفت بالتفرج، وعندما شعرت أنها مررت ما أرادت أو تورطت في شؤون أخري سحبت التمويل!! أما الإدارة فقد كانت صاحبة المسؤولية الكبيرة ، في الفشل ، فقد غابت عنها: القدرة الفنية والمسؤولية. نموذج الفشل كثافة الترويج لعاصمة الثقافة هذه، أيقظت فينا الكثير من العشم في مضمار طباعة الكتب. ربما لأول مرة سنجد دعماً حكومياً!! عشت على هذا الحلم حتى إستيقظت على الوهم، و دخلت على (المسؤول) كأنني وجدت لأول مرة من يفهم دافعي ويقدر معاناتي.رحب بي وشجعني اهتمامه في أول الأمر ولكنه عندما علم أنني أبحث عن فرصة لطباعة كتاب. صمت قليلاً ثم نظر إليَّ ببرود وقال: لماذا تتخذون كتابة الكتب مهنة.. ألا ترون أن «الكتابة» مضيعة للوقت!!. حاولت أن أتجاوز الصدمة بحوار مع الذات محشو بمنطق : قلت: ربما هذا نوع من المزاح عدت لأسأل نفسي: ألم يتضح (لك) نوع الثقافة التي يروج لها إداريو (عاصمة الثقافة)؟! وهل مثل هذا (المسؤول) يمكن أن يقدم شيئاً للثقافة؟ إذا ظننت مثل هذا.. عيش يا حمار لترى! ألم يكفيك هذا النموذج لتصدق!! من قال قبل إن الخرطوم (قاصمة الثقافة )!!قاومت نفسي لأنني ما كنت أريد أن أتنازل عن تفاؤلي القديم، وكنت مستعداً لابتلع الصدمة ، لهذا ، قررت أن أجدد الزيارة وبالفعل كانت الزيارة وبالفعل عدت مرة أخري لمحاورة هذا (المسؤول) لاكتشف في نهاية الحوار ان (الخرطوم) لم تكن (قاصمة) للثقافة!! ولكن كانت بالفعل عاصمة (للسخافة)!!!!!