لا يمكننا أن ننكر الدور الكبير الذي لعبته ثورة الإنقاذ الوطني في مسيرة السودان، والتي اندفعت بقوة نحو بناء وطن قوي قادر على مواجهة التحديات، في ظل أوضاع سياسية واقتصادية صعبة، فكانت بحق حجر الأساس الذي انطلقت منه نهضة السودان الحديث، وكان من الطبيعي أن يستأثر روادها، وهذا حقها بالكثير من المنافع والمكتسبات، فكان منهم الساسة والقادة والوزراء والرؤساء والمدراء، بعضهم شغل هذه المواقع لفترة طويلة والبعض الآخر لعدة مرات، حتى وصلت قناعات البعض منهم إلى أن المجتمع لا يمكن أن يستغنى عن أفكارهم وأطروحاتهم، ولكن لا بد من الاعتراف أن الأيام تتبدل والأحوال تتغير وأن واقع اليوم يفرض على المجتمع التفاعل الحضاري، والاستفادة من كافة الطاقات الصغيرة والكبيرة، ولذلك كان لا بد من التركيز على عنصري (الكفاءة والفاعلية )، كأمرين متلازمين للوصول إلى المواقع الإدارية المتقدمة، للمساهمة في بناء الوطن، وهي جوانب مهمة في القيادة والتطوير، إذا ما استصحبنا معنا التوسع والتشعب الإداري الكبير، الناتج من الانفتاح على العالم عقب التغييرات السياسية التي شهدتها الساحة المحلية، والذي خلق توجهاً عاماً بدأ يسود لدى المواطن السوداني، والمطالبة بضرورة الاشتراك في إدارة الأمور... فأي ولاية من ولايات البلاد المختلفة تدار من خلال مئات المؤسسات والهيئات والمصالح والمعاهد في جميع القطاعات الاقتصادية والصناعية والخدمية والاستثمارية بين حكومة الولاية لمعنية والقطاع الخاص وغيرها من الجهات، والتي تستند في تطورها الاجتماعي ورقيها الحضاري إلى إبراز (المهنية والإنتاجية) في العمل، عبر الجهد والعمل واكتساب المؤهلات والخبرات الضرورية، ولكون نظرتنا لجودة الاداء لإدارة هذه الولايات، ترتبط بشكل مباشر بجودة أداء هذه الهيئات، فإنها ترتبط بجودة اداء الموظفين الذين يعملون بها، في إطار رؤية وخطط وبرامج تضعها تلك الولاية على مستوي التخطيط الاستراتيجي، وتتابع تنفيذها بهذه الجهات، مع تحديد كيفية التعامل مع الممتلكات العامة والخدمات، وبالقطع فإن التشريعات والقوانين الخاصة بالعاملين بها لها دور في التأثير على هذه الإدارة وعلي الاداء. والمواطن أو المستفيد هو الذي يبحث دائماً عن العائد المباشر، أو الذي ينبغي أن يراه فقط، و لكنه في نفس الوقت لا يبحث عن الفوائد غير المباشرة والتي قد تكون أكبر مما يراه، وأكثر تأثيراً عليه فجودة الاداء في ولاية الخرطوم والتي تمثل الولاية الأكبر والأهم من حيث عدد السكان، لا تقتصر على إدارة هذه الجهات، ولكنها مسئولة عن المشروعات الكبرى التي تؤمن للمواطن الخدمات، والتي تحل مشاكله اليومية والمرحلية والمستقبلية، وبالتالي تتطلب إعلام المواطن أهمية هذه المشروعات، والعائد منها في كل هذه المراحل الزمنية، خصوصاً في المشروعات القومية الكبرى، والأمثلة كثيرة فعندما يشكو المواطن مثلا من الإزدحام المروري وجب إعلامه بالذي كان سيعانيه لو لم يتم تعبيد الطرق الدائرية، والمعابر وعشرات الكباري التي تم إنشاؤها وللأهمية نقول.. إن جودة الأداء بالولاية لا يمكن فصلها عن جودة أداء المواطن، بل يوجد خط متواصل ورابط بينهما يصب في جودة أداء إدارة الولاية، كما أن تحقيق جودة أداء المواطن هو في نفس الوقت مسئولية الولاية في العمل الدائم على تحسين جودة أداء هذا المواطن في كآفة القطاعات، وهذا بدوره ينقلنا للحديث عن النظام الذي يجب أن يقوم عليه العمل في الولايات، انطلاقاً من أن وظيفة الإدارة لا تشمل وظيفة الحكم، وعليه فإن الوحدة الإدارية للولاية تبقى واحدة، أي أن الولاية تشهد وحدة واحدة في القانون، بمعنى آخر تقوم مجالس المحليات بدور العمل الإداري فقط دون التدخل بالقرار السياسي أو التأثير فيه، ولهذا كان لابد أن نشهد تغُيراً يتماشى والتركيبة الديموغرافية والإدارية لولاية الخرطوم، والذي يشتمل على امكانية واقعية لتغيير أخطاء الماضي واستبدالها بالنهج الصحيح، ووفق برنامج سياسي وإداري متكامل يشترك فيه الجميع دون استثناء، ولذا فإن محاولة الإسراع بتطوير المحليات وإعادة إعمارها، ورفع مستوى العمل فيها الى أعلى طاقة، هو من الأولويات، بحيث يمّكن حكومة الولاية من إنجاحه، في وقت يتطلب ذلك بناءاً إدارياً جديداً مضافاً الى حالة الإعمار الشاملة في الولاية، وهذا بالضرورة يؤدي إلى الوصول لحسن الأداء الإداري، لأنه يؤكد لنا إن حاجات المحليات سيتم تحديدها بوجه الدقة لأن أعضاء مجالسها الذين يتولون الإدارة هم من أهل المحلية نفسها، ويملكون معلومات دقيقة عن احتياجاتها ومصالحها، بالإضافة لأننا سنضمن بأن سيكون لديهم ولاء وإخلاص بقدر ما، يتفانون في تطوير محليتهم أكثر من الأشخاص الآخرين الذين لا ينتمون إليها، ونرى أنها تستجيب لواقع التفاصيل الإدارية المتشعبة، وتؤدي إلى السرعة في الأداء، خاصةً في مواجهة الأزمات الطارئة، والتي كثيراً ما تعرضت لها إدارة الولاية في فترات متكررة.. وما نحتاجه لهذه التجربة الإدارية الجديدة هو تكيفها بطرق قانونية وإدارية تمنهج العمل بصورة صحيحة، قائمة على أساس الحاجة الفعلية التي تناط بها مسؤولياتها دون ترهل وتشعب غير مدروس في التعيين والإدارة، وإن الخطوة الأهم التي تحدد مدي نجاح الإدارة هي صياغة وتحديد الأهداف المرحلية والمستقبلية وترجمتها إلي خطط وبرامج قابلة للتنفيذ، بعد تأمين جميع مقومات تحقيقها، كما نريد أن يكون نظام الإدارة في الولاية عماده إدارة اقتصادية، بمعنى أن يكون المعتمد المسئول عن المحلية له وظائف معروفة وله أهداف محددة من السياسة العامة للولاية، ودون تدخل مباشر فيها، بل ويقوم على تنفيذها حسب جدول زمني محدد، إدارة اقتصادية تعتمد على مكون اقتصادي وليس اعتماداً على جبايات أو رسوم تتحصل من هذا المواطن المسكين أعطاها أو منعها. ولكي نكمل الصورة ننقل هذا المشهد للخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز والذي اتخذ مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة، على رأسهم التابعي الجليل (سعيد بن المسيِّب) فلم يقطع أمراً بدونهم، بل كان دائماً يطلب منهم النصح والمشورة، وذات مرة جمعهم، وقال لهم: إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدَّى أو بلغكم عن عامل (حاكم) ظلامة فأُحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني، فشكروه ثم انصرفوا.. وقد دخلت عليه زوجته فاطمة ذات مرة وهو يبكي، فسألته عن سرِّ بكائه، فقال: إني تَقَلَّدْتُ (توليت) من أمر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أسودها وأحمرها، فتفكرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري والمجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذوي العيال الكثيرة، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمتُ أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيتُ ألا تثبتَ لي حجة فبكيتُ.