مقولة تاريخية قديمة، تتردّد في بعض الوثائق التراثية العربية التي يقول البعض إنها تعود إلى العهد النبوي القديم: «استوصوا بأهل النوبة أخيراً، فإنهم يسدّون الرتاق، ويحفرون الخنادق، ويطفئون الحرائق.. ومن لم يكن له أخ، فليتخذ أخاً نوبياً».. يوقن البعض أنه حديث شريف، وإن كانت الأكثرية ترى أنه مجرّد قول مأثور لا يدري أصله أحد، بل إن بعضاً آخر يرونه «فرية اسطورية»، يتندرون بها على «الحلفاويين».. ومهما يكن من خلاف حول أصل المقولة، فقد تحقّقت بعض المؤشرات- في تاريخ السودان المعاصر- رصدت أدواراً وفاقية حيوية قام بها رجال قادمون من أرض النوبة.. وانبرى رجال منهم، منذ بدايات الحركة الوطنية.. في كلية غردون التذكارية، وفي مؤتمر الخريجين، ثم في كلية الخرطوم الجامعية.. وفي النواة الأساسية التي انطلقت منها مسيرة الأحزاب السياسية السودانية- بكل تفريعاتها ومنطلقاتها وتناقضاتها- وبرزت كوكبة مضيئة من أسماء لا تزال تحتفظ بصداها القديم، أسهمت في إطفاء «الحرائق السياسية على امتداد تاريخ السودان الحديث. من شعاب الأرض التاريخية للنوبة- من إسنا شمال أسوان وحتى الغدّار جنوبدنقلا- لمعت أسماء رجال شاركوا في صياغة تاريخ السودان، وتركوا بصمات غائرات في سجل ذلك التاريخ.. وقد كانوا دوماً «حمائم سلام» ودعاة وفاق، واستطاع اولئك القادة الأفذاذ توظيف علاقاتهم الودية مع جميع مكونات الواقع السياسي، وانتشروا في كل المدارس الفكرية بسودان ذلك الزمان.. من لدن «محمد نور الدين» المتطرف في دعوته الإندماجية مع مصر، إلى أقطاب حزب الأمة إبراهيم أحمد ومحمد خليل بتيك وداؤود عبد اللطيف، إلى رهط الإتحاديين الديمقراطيين محمد توفيق أحمد وصالح محمود إسماعيل وأحمد دهب حسنين، إلى ميرغني- محجوب في حزب الأمة «جناح الصادق»- إلى الاستقلاليين دكتور محمد أحمد علي وصالح محمد طاهر وجمال محمد أحمد.. وآخرين كثيرين لعبوا أدواراً باهرة في مختلف مراحل تاريخنا المجيد. وحين احتدم الصراع بين جنوب السودان وشماله- منتصف الستينيات- كان لنفر من النوبيين دور مشهود في «إطفاء الحريق»، وفي محاصرة الخلافات، وفي تقريب وجهات النظر.. فكان «مؤتمر المائدة المستديرة» الذي تعود جذور فكرته الأولى إلى مبادرات شخصية قادها المرحوم داؤود عبد اللطيف بحكم علاقات وطيدة كانت تربطه برموز من النخبة الجنوبية: وليم دينق وكلمنت أمبورو وأزبوني منديري وبوث ديو وآخرين.. وفي استقراء للتاريخ القريب جداً، تلوح صفحة ناصعة سطرتها جهود رجل نوبي أصيل، هو الراحل المقيم الشهيد المشير الزبير محمد صالح.. الذي خاض طوفان الدم ليصل إلى «الغابة»، ليجلس مع قادة المتمردين، يستمع إليهم، ويحاورهم، ويقنعهم بالحضور إلى الخرطوم.. فيما عُرف آنذاك بمصطلح «السلام من الداخل»، واستطاع المرحوم الزبير أن يضع حداً للاحتراب البغيض، وأن يحقق وقفاً لإراقة الدماء البرئية، وأن يُسكت دوي الرصاص.. وأن يمنح السودان فترة من السلام والوئام. قبل شهور عديدة قادت شبكة المنظمات النوبية بالتضامن مع مفوضية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج مبادرة سلمية رائدة تحت شعار «نعم للسلام، لا للحرب»، وانعقدت عدة لقاءات بدارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة.. في دارفور أشاد العمدة شريف تنكو بالتعايش السلمي الفريد لأبناء كل قبائل دارفور مع النوبيين، في حلفا الجديدة ووادي حلفا. وفي كادقلي قال الوالي السابق محمد هارون إن حفلاً غنائياً تحييه البلابل وأغاني وردي «بالرطانة» كفيل بالمساهمة في إعادة اللُّحمة الرابطة بين مكونات الجبال، حيث احتفى الأمير حازم بفرقة التراث النوبي القادم من أقصى الشمال.. والآن، والسودان تتناوشه الصراعات، وتتهدده المخاطر، وتحيط به الأزمات، تتجدد الأشواق إلى بروز مبادرة سلمية وفاقية جادة، تنبذ الاقتتال، وتدعو إلى السلم.. تستصرخ ضمير الأمة، وتستنهض روح الوحدة الوطنية الموءودة.. وتنطلق المناشدة إلى رموز النخبة النوبية المعاصرة.. وتجاوزاً لكل خلاف فكري أو سياسي، يتواصل النداء إلى اخوتنا وابنائنا في المؤتمر الوطني وفي الحركة الإسلامية.. أصحاب شهيدنا الوالي الراحل الأستاذ فتحي خليل واخوته وتلاميذه.. إلى بكري حسن صالح وعبد الرحيم محمد حسين بالقصر، وإلى الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، ود. سلاف الدين صالح مفوض نزع السلاح، وإلى عصام الدين ميرغني وسيد محجوب وبكري ربيع بالمجلس الوطني، وإلى بدوي الخير ومحمد عبد الله سيد أحمد بمجلس الولايات.. وإلى قضاة المحكمة العليا مولانا وهبي أحمد دهب ومولانا تاج السر محمد حامد.. وإلى الدستوريين المتقاعدين أبو بكر محمد عثمان وطارق توفيق وعبد الجابر مرعي، وإلى السفراء الوزراء أبو بكر عثمان محمد صالح وإبراهيم طه أيوب.. وإلى القيادات النوبية في الأحزاب الأخرى: محمد مختار الخطيب بسكرتارية الحزب الشيوعي، وبكري محمد خليل ورفاقه في حزب البعث.. وإلى كل مكونات المنتديات النوبية في «شبكة المنظمات النوبية» والنادي النوبي.. ومنظمات المجتمع المدني واتحاد ابناء حلفا السكوت المحس برئاسة صديقنا عبد المجيد محمد عبد المجيد. تنداح الدعوة لتصل إلى أصهار النوبيين، الذين تربطهم أواصر «النسابة» والتزاوج والاقتران.. على رأسهم الشيخ علي عثمان محمد طه، الذي تقترن كريمته بحلفاوي كامل الدسم، ثم «نسيبنا» وزير الخارجية الأستاذ علي كرتي، المتزوج من نوبية صميمة من آل قرناص.. ثم نسيبنا الآخر المهندس أسامة عبد الله، الذي نشأ وترعرع وتعلم بحلفا القديمة، ثم يخلص النداء إلى «زمرة أصدقاء الحلفاويين».. الباشمهندس الحاج عطا المنان، والشيخ أحمد عبد الرحمن، ودكتور عبد الرحمن الخضر، واللواء الهادي بشرى.. وآل أبو العزائم، وعلي فقير عبادي والفريقين مالك نابري وجلال تاور.. وكثيرين آخرين..إلى كل هؤلاء وأولئك ينطلق النداء: تعالوا إلى ملتقى ودود جامع، واطرحوا دعوة وفاقية راشدة.. اجلسوا مع الجميع، مع جميع الأطراف بلا استثناء ولا إقصاء ولا تهميش.. اسمعوا لكل الآراء، وأعملوا على رتق النسيج التواصلي الحميم.. اطلقوا «المبادرة النوبية لإصلاح ذات البين»، واهدوا إلى السودان طوقاً للنجاة.. واثبتوا للعالم كله انكم- فعلاً- تسدون «الفرقة»، وتطفئون الحرائق.. ولكن، بالله عليكم، لا تحفروا الخنادق!