ü أهداني «مركز عبد الكريم ميرغني»، المؤسسة الثقافية الوطنية الرائدة، كتاب الدكتور الحاج سالم مصطفى، خبير المكتبات والمعلومات والاستاذ الجامعي، «دار حمر».. باكورة انتاج المركز في مجال النشر للعام 2014.. والذي يؤرخ ويوثق فيه الكاتب «لدار حمر» لتاريخ القبيلة الكبيرة في تلك الديار.. فللمركز الشكر والمنة ابتداءً. ü قدم للكتاب الاستاذ إبراهيم منعم منصور وزير المالية الأسبق، ورئيس مفوضية تخصيص ومراقبة الموارد «لفترة قصيرة» بعد تشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» بين حزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان في أعقاب توقيع اتفاقية «السلام الشامل» بمنتجع نيفاشا 2005. ü الاستاذ إبراهيم منعم احتفى بكتاب «دار حمر» وبكاتبه د. الحاج سالم احتفاءً عظيماً، وكتب مقدمة بديعة للكتاب بقراءة مُدققة ومُتبصرة حفلت باشارات مهمة وتوضيحات ضرورية لبعض الأسماء والوقائع والأماكن التي جاءت غامضة في نص الكاتب، كما أورد العديد من الاستدراكات لبعض ما رآه يستحق التصحيح والإبانة، وأكد في معرض مقدمته على ضرورة كتابة التاريخ- كما هو- دون مجاملة أو حرج، حتى بالنسبة للوقائع والأحداث التي يتجنبها بعض كتاب التاريخ لأنه- كما رأى- لا يكتمل التاريخ إلا بإيراد تلك الوقائع والأحداث حتى لا ينال كتابه الإتهام بالتقصير أو الغرض، فلا يُعقل مثلاً أن يُذكر تاريخ الحكم التركي بالسودان بتجاهل الهزيمة في شيكان، ولا تاريخ المهدية بتجاهل الهزيمة في كرري، وبالمثل لا يتم تجاهل هزيمة قبيلة حَمَر وتسرب بعض رجالها ومقتل منصور محمد الشيخ في (القناطير) على أيدي الرزيقات. وكما لا تذكر هزيمة وهروب فضل الله ود سالم في (دوسة العقال)، ولكن هناك مؤرخون، يتقدمهم حسن نجيلة- وهو مرجع يشار إليه- حين كتب كتابين عن الكبابيش لم يشر فيهما إلى دوسة العقال. ü ويضيف إبراهيم منعم: لذلك سررت أن تعرضتم في الكتاب إلى التاريخ كما حدث وإلى الشخصيات كما هي؛ فهم بشر لهم صفاتهم وبطولاتهم واخفاقاتهم واخلاقياتهم و علينا- نحن أحفادهم- أن نتعرف على الماضي، وأن نتقبَّل الحقائق وأن نستلهم العبر.. وذلك في معرض نقده لحذف الكاتب لبعض العبارات في خطاب كل من الشيخ فضل الله والشيخ مكي باعتبار أنها (بذيئة)، استناداً إلى أن (بعض الخواجات)- كما ذكر الحاج سالم- قد تحاشى ايرادها بالنص وترجمها إلى اللغة اللاتينية، وهي عند إبراهيم منعم ليس سوى محاولة من أولئك (الخواجات الكتاب) لنقلها بلغة أكثر (دقة) ليفهمها جمهورهم، وفي نظره أن تلك الألفاظ هي أحد أهم الدوافع إلى (الحرب) لعدم مقبوليتها و (للاستفزاز والإهانة) بلغة اليوم، سواء كان لحمر أو للكبابيش.. ورأى أنه لا يجوز حذفها ووضع (...) نقاط مكانها، لانها كانت إحدى محفزات الاندفاع والانزلاق إلى الحرب. ü إهداء دكتور الحاج سالم الكتاب إلى روح «الأب المؤسس»- مصطفى أحمد يعقوب- الذي وصفه بالصياد الماهر الذي قدم إلى «دار حَمَر» صائداً للتيتل والجاموس والنعام فتصيد في ما تصيد «غزالة حمرية» من ناس «بني بدر» بنواحي «صقع الجمل» فتزوجها، هو ما أوحى إليَّ بالعنوان أعلاه خلال قراءتي لمقدمة إبراهيم منعم، التي خرج فيها من التقديم و «خرّم» لتسجيل واقعة تاريخية مهمة تخصه وتخص السودان وتخص النظام الحاكم، كشهادة دامغة على كيفية تصريفه لأمور الدولة. ü فتذكرتُ قول أحد كبار ساستنا مرة، بعد إبرام إحدى تلك الاتفاقات الثنائية الهشة، أنهم: جاءوا ليصطادوا ارنباً فاصطادوا فيلاً، قالها تعبيراً عن طَرَبه بما لقيه من ترحيب خادع وبما اعتقد أنه فوز عظيم، حتى أصبح عليه الصباح فأخذ يندب حظه أو آماله.. أما أنا الذي قد أمَّلت أن اصطاد من كتاب الدكتور الحاج مجردة «غزالة»، فقد فوجئت أنني قد أصطدتُ بالفعل «زرافة» مشرئبة بعنقها المديد إلى أعالي الشجر تقتات من طيب فروعه العلية وأوراقه الندية ونواره الباسم، وهي تلك «الزرافة» المخبوءة وسط غابة من سطور السيد إبراهيم منعم حول قصة مغادرته لمنصبه الرفيع، مفوضاً لتخصيص الموارد ومراقبة عدالتها بين ولايات السودان وأقاليمه القصية والدانية. ü خرج إبراهيم منعم «من النص»- نص المقدمة- بعد «الاستئذان» لتوضيح أمر «مفوضية تخصيص ومراقبة الايرادات المالية» التي قبل أن يكون رئيسها.. وتم اعفاؤه منها «ليلاً» بالتيلفون- كما قال- قبل أن يتلقى الخطاب الرسمي بعد عشرة أيام، ثم أخذ يحكي الحكاية، فقال إبراهيم في ما قال: ü المفوضية مؤسسة رئيسية في أي نظام (فيدرالي) للحكم، وإذا كانت (قسمة السلطة) هي إحدى أجنحة هذا الحكم فإن (قسمة الموارد) هي الجناح الآخر. ü لقد طغت (السياسة) وما يتبعها من (مناصب) وأجهزة فرعية مثل المحليات والولايات والمستشاريات على قسمة الموارد، والتي بدونها تكون تلك الأجهزة والمناصب هياكل خاوية يتربع عليها بعض المخدوعين من أبناء الأقاليم باعتبار أنهم تسلموا (السُلطة) لحكم مناطقهم، ولمّا لا يجدون موارد يقومون بابتكار شتى صنوف (الجبايات والضرائب) على مواطنيهم وعلى المنتجات وعلى الزروع والضروع فيعيقوا عجلة الخدمات ناهيك عن التنمية والانتاج، في حين أن (الموارد) موجودة في الخرطوم، وتم تعطيل الجهاز الذي بموجبه يكون لهم (حقٌ) في تلك الموارد وليس (منحة أو تبرُّع) كما تسمى. ü فصّل إبراهيم في فكرة المفوضية كمؤسسة راعية لتصريف الموارد القومية على الولايات كحق مشروع لها، والنصوص المتصلة بهذا الحق في اتفاقيات السلام (نيفاشا وأبوجا والشرق)، وعلاقة المفوضية بوزارة المالية الاتحادية والمعايير الخاصة بقسمة الموارد وأنصبة الولايات وعضوية هذه المفوضية التي تشمل ممثلي الحكومة المركزية وحكومة الجنوب ووزراء المالية في الولايات الخمس والعشرين، وكيف يتم إعداد الميزانية وقسمة الموارد واقرارها ورفعها للبرلمان لإجازتها ووضعها في «الحساب القومي»، بحيث تطلب المفوضية من وزارة المالية تحويل نصيب كل ولاية كل شهر حسب المعايير، وبحيث لا تتخطى وزارة المالية نصيبها الشهري من «الحساب القومي»، وهنا يأتي دور (المراقبة) الوارد في اسم المفوضية. ü من سلطات المفوضية، وفقاً للاتفاقيات والدستور، أنها الحكم بين الشمال والجنوب في حالة اختلاف الحكومتين فيما يختص بالموارد السيادية كالجمارك وضرائب ارباح الأعمال المتداخلة، وهي كذلك حكم بين الحكومة الاتحادية والولايات وبين الولايات فيما بينها في ما يخص الايرادات، وإذا رفضت أية جهة حُكمها لها الحق في رفع قضية إلى المحكمة الدستورية نيابة عن الجهة المتضررة، أما ايرادات البترول فتقوم بقسمتها «مفوضية البترول» التابعة لرئاسة الجمهورية. ü وخلص الأستاذ إبراهيم منعم إلى «عبرة» قال إنه خرج بها من عمله القصير الأجل في (المفوضية) وهي: أن الاهتمام بقيام مفوضية (فاعلة) أهم للبلاد وللأقاليم الهوامش بالذات من السعي لولايات أو محليات، إذ أن (مشاركة) كل منطقة في قسمة حقوقها والحصول عليها، هي الضمان الأكيد لوجودها السياسي والضمان المؤكد لحصول مواطنيها على ما يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم ولاهليهم من خدمات في كل مناحي الحياة، أما خداعهم بأنهم سيستلمون (السلطة) بقيام هياكل فارغة للحكم في ولايات ومحليات واستئثار الخرطوم بعصب الحياة وهو (المال) فهو مجرد خداع سياسي سوف يؤدي بعد اكتشافه إلى الحالة التي نراها الآن. ü لعل هذا الذي يقوله إبراهيم منعم.. وهذا الفهم لدوره في رئاسة المفوضية ولدور المفوضية ذاتها في مفاصل منظومة الحكم هو ما عجل بترحيله وصرفه ب«الهاتف».. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم نعد نسمع «حساً ولا خبراً» لتلك المفوضية المعنية بتخصيص ومراقبة الموارد، حتى كان ما كان وما يكون مما يراه آسفاً وآسياً «الآن» الاستاذ إبراهيم منعم. ü تلك هي «الزرافة» ذات العنق الطويل والعيون البارزة التي كانت تلحظ من فوق وتراقب ما وراء الشجر، والتي اصطدناها من مقدمة إبراهيم منعم.. وسنعود لعرضٍ موجزٍ لكتاب د. سالم «دار حمر» في «إضاءات» لاحقة إن شاء الله.