ü فور فراغي من قراءة «رحلة العسكري الأخيرة» اتصلت على كاتبها زميل الدراسة والصديق السفير جمال محمد أحمد -منذ عهد الطلب بالمؤتمر الثانوية وجامعة الخرطوم- فرد عليّ كعادته مرحباً ومهللاً، وابلغته أني قد انتهيت فوراً من قراءة روايته البديعة، فكان سروره عظيماً وإن ابدى دهشة من حصولي على نسخة منها بينما هم قد قاموا لتوهم بتدشين الرواية في احتفال مخصوص منذ يومين فقط، فقلت له انها قد وصلتني «طازجة» قبل شهور من ناشريها «هيئة الخرطوم للصحافة والنشر». ü «رحلة العسكري الأخيرة» هي عمل غير مسبوق يقدم عبر السرد والرواية سيرة البطل عبد الفضيل الماظ، الذي يسميه جمال «عبد الفضيل جوهر» وفق مطلوبات الرواية التي تمزج مزجاً مدهشاً بين حقائق الواقع وشطحات الخيال والقراءة البصيرة الناقدة لعلل المجتمع السوداني التي ما فتئت تقعد بسعيه نحو التقدم والاستقرار والوحدة.. ü ولنيُسّر على القاريء ونختصر عليه الطريق المفضي الى عرصات الرواية ومنحنياتها، نبدأ بتعريف شخصياتها وامكنتها وازمانها، قبل ان ندلف الى الأحداث. ü شخوص محورية: عبد الفضيل جوهر (الماظ)، عيسى جوهر (والده) محمد بك جوهر (جده) وسامي جوهر (حفيدهم الباحث في تاريخهم صاحب اليوميات) وصديق (صديق سامي وزميله في المدرسة والكلية الحربية) عبد الفراج بك (زميل عبد الفضيل وصديقه الضابط المتقاعد) عبد الجبار (الشيخ المُعمر ذاكرة الاحداث) احمد الشقيلي (راعي عبد الفضيل وصهره)، سليمان عبد الفراج (حفيد عبد الفراج بك)، حليمة الدينكاوية (زوجة الشقيلي الثانية وخالة عبد الفضيل وحاضنته) العمدة سليمان (عمدة أبو سعد) حاج مجذوب (الحلاق مُخبر العمدة) عطية الشامي (ادوار عطية رجل المخابرات البريطانية) هدلستون باشا (حاكم غرب السودان ونائب الحاكم العام لاحقاً). ü أمكنة مهمة: ام درمان (ابو سعد، كرري، حي الضباط «السودانية»، كبري النيل الابيض).. الخرطوم (المستشفى العسكري، شارع فكتوريا، شارع الجامعة) المكسيك، القاهرة، باريس، تلودي (جبال النوبة). ü ازمنة الوقائع: اواسط القرن التاسع عشر واواخره.. مطلع القرن العشرين وعشرينياته.. 1956 وما بعدها. ü الكاتب -السفير جمال- اتخذ منهجاً مستحدثاً في السرد الروائي، ربما أملته عليه «ضرورات المزج» بين حصيلة البحث المطول والمكثف عن الحقائق والوقائع كما وردت في الكتب والمدونات و«مطلوبات العمل الروائي» وأخيلته المفترض صبها في قوالب ادبية جميلة تنتج متعة القراءة.. ü تمثل هذا المنهج في استحداث شخصية افتراضية هو صديقه «سامي جوهر» الضابط السوداني الباحث في تاريخ أجداده واخرهم الشهيد البطل (عبد الفضيل)، والذي عكف على تسجيل يومياته وما ينتهي اليه من معلومات كل ما كان ذلك ممكناً، وشخص لسامي صديق ورفيق في رحلة البحث المضنية هو «صدّيق الشقيلي»، الذي ليس هو الا الكاتب نفسه (جمال) المتحدر من «اسرة الشقليني» التي تم تحريف اسمها او تصحيفه في الرواية لتصبح «الشقيلي».. وبهذا يتشارك سامي وصدّيق الجهد في نبش التاريخ والتفتيش في ذواكر المُعمِّرين، وليتصفح صدّيق بين كل فصل وآخر من فصول الرواية ما خطه قلم صديقه سامي في يومياته ليذيعها على العاملين، وبذلك، بهذه الحيلة الذكية، يتحلل جمال من تبعات السرد المباشر عبر الشخص الثالث (The third person) المُخترع الذي هو «سامي» وليلبس هو قناع «صدّيق الشقيلي» كشخص ثالث آخر مفترض اطلع على يوميات سامي وجهوده مع موقع الصداقة والزمالة والجيرة في السكن. ü سامي جوهر.. يبدأ من رحلته ومهمته العسكرية الأخيرة كمدخل لإستعادة ماضي أجداده بل وماضي بلاده كلها، إن لم يكن مستقبلها، عندما تقرر نقله إلى الجنوب للإشتراك في «الحرب الأهلية» الدائرة هناك.. تلك الرحلة التي كتبتها له «أقدار التاريخ» كما قال في يومياته.. ليتساءل في حرقه: هذه المرة: لا أعرف هل تعمد أحد القادة العسكريين في الخرطوم الزج باسمي في قائمة المكلفين بمهام قتالية في الجنوب؟ ام أن الأمر رتبته الصدفة المحضة؟ أجل سأعد نفسي للمهمة، ولن أجفل من قدر جاء إليّ.. من كان حفيداً لبطل مات ممسكاً مدفعه في الخرطوم في «الشمال» لهدف نبيل، يتأهب الآن لقتال بين الشمال والجنوب نبله مشكوك فيه، كتب عليه ان يحمل مدفعه ويصوبه، ليس على معتد غريب أو مستعمر غاشم، بل الى صدر بعض أهله وبني وطنه.. يا لتواطؤ الأقدار.. هل تستقيم هذه الوقائع مع تلك التي جرت في أبعد بلد عن بلدي «السودان».. في المكسيك وقائع بطلها جدي الأكبر الكولنيل «محمد جوهر بك» في وديان «فيرا كروز» بالمكسيك؟ ü لم يواصل سامي تساؤلاته المنطقية والمُستغرِبة ليقول لنا -كما سنقرأ لاحقاً في فصول الرواية- وهل تستقيم هذه الوقائع أيضاً مع عودة جده «عيسى جوهر» في ركاب حملة كتشنر لاستعادة السودان مُترجماً ومُساعداً للمراسل الحربي المُجنّد وينستون تشيرشل الذي لم يكلف نفسه عناء الاشارة لمترجمه في كتابه الذائع الصيت «حرب النهر» الذي دون وقائع «الإبادة الجماعية» للأنصار في كرري، بالرغم من دور عيسى الأكبر في فك شفرات اللغة والأحداث التي شكلت مادة الكتاب. ü اخترنا لهذه «الإضاءة» على رواية جمال «رحلة العسكري الأخيرة» عنوان «قطفة أولى» تيمناً بسلوك أهلنا المزارعين، الذين يسمون أول الحصاد ب«البشاير» أو «القطفة الأولى» قبل الإيغال في جني المحصول بكامل قوامه، الذي هو من عمل «الشغيلة المحترفين» عندهم، والذي هو في عالم الأدب -شعراً وقصة ورواية- عمل «النقاد» أهل الاختصاص واللغويين، الذين لا بد ان يأتي دورهم أوان الحصاد، وإنا لأقلامهم (السنينة) لمنتظرون. (نواصل)