عودة (فضة) جواد عبد الفضيل الى (أبو سِعد) وحيداً بعد أن ترجل البطل مرة أخيرة والى الأبد.. عودته خاوي الوفاض يتلفت حائراً في أزقة الحي لعله يعثر على فارسه الذي ربما تركه وسبقه الى الدار لسبب غير مفهوم.. هذه العودة تصلح لأن تصبح أكثر المشاهد تركيزاً وإثارة في عمل درامي- سينمائي أو مسرحي- يقوم على تصويره مخرج مبدع يستقطب به أنظار العالم.. لكن من أسف فليس لدينا سينما أو مسرح يتعهد هكذا إبداع. üمن حكايات الجد عبد الجبار، لسامي وصدّيق، أن صبية الحي اعتادوا أن يزفّوا عبد الفضيل كل صباح وهو يعتلي سرج (فضة) متأهباً لعبور جسر النيل الأبيض في طريقه لسكنة (سعيد باشا) في الخرطوم.. كان هؤلاء الصبية أول من إنتبه لعودة فضة بلا فارسها العتيد، فأفضوا بالخبر إلى مسامع (مجذوب الحلاق)، الذي هرع الى دار (ود الشقيلي) ليستوثق، فألفى نساء الحي قد تحلقن حول (حليمة)- خالة عبد الفضيل ومربيته- و(فتحن البكا)، لينطلق من توه لا يلوي على شئ الى بيت العمدة سليمان بينما الشمس تدنو للمغيب. ü كان لافتاً صباح ذلك اليوم أن عبد الفضيل قد طاف- على غير العادة- بطرقات الحي ممتطياً جواده الأثير وهو في كامل أناقته العسكرية، وكأنه يسجل في ذاكرة قومه أنه ذاهب ليلقي بقوله الفصل ويقف وقفته الأخيرة.. وقد كان. فعاد (فضة) وحده يدير عنقه الممشوق في كل اتجاه ويمعن النظر ملياً، لكن لا فائدة.. فقد (وقع المقدور). ü ينقلنا من ثم- كاتبنا جمال محمد ابراهيم- الى معركة أخرى، معركة كلامية، كان مسرحها (بيت العمدة) طرفاها أحمد (الشقيلي) وبعض حضور مجلس العمدة من (المُسطّحين) الذين توافدوا إثر انتشار الخبر الحزين.. كان موضوع المعركة الكلامية (معنى مقتل عبد الفضيل وصحبه والإجراءات المطلوبة في مواجهة (الموقف)، خصوصاً بعد أن استقبل العمدة سليمان (كبير البصاصين) إدوارد عطية (الشامي) حاملاً رسالة الحاكم العام (هدلستون)، التي يبلغه فيها أن الجنود المتمردين- بما فيهم قائدهم عبد الفضيل- قد لقوا حتفهم جميعاً وقليل منهم تمكن من الفرار، ووعده أن يبذل مساعيه لتسليم الجثامين وطلب المساعدة في القبض على الفارين الذين اتجهوا إلى القرى المحيطة بالفتيحاب، مع تعهد بعدم الحكم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد. ü فتح المعركة (مصطفى الجموعي) الذي عبر بطريقة فجة عن عدم اكتراثهم بما جرى وأن (لا دخل لهم بالموضوع ولا دخل للبلدة بالوقوف في وجه الحكومة.. وآذره آخر هو (صالح صاحب البقالة) الذي قال: ما كنت أصدق أن عبد الفضيل يرتكب حماقة كهذه.. هنا ثار الحاج أحمد الشقيلي ورد عليهم بسؤال استنكاري: ما هذا الهراء الذي أسمع؟، وأمسك بأطراف عباءته كأنما يهم بالوقوف، قائلا: ليس لي أن أستمر في الجلوس معكم للإستماع إلى هذا اللغو.. سيدي العمدة.. هل من داع للإساءة لرجال دفعوا حياتهم ثمناً لكرامتنا التي أهدرها الغرباء المستعمرون.. هل نحن هنا لنحاكم أبناءنا ونتراجع للوقوف مع الانجليز.. وكان أكثر من استفز الشقيلي هو قول (الجموعي) هؤلاء الجنود (السودانيون) ليسوا منا.. فالسودانيون في عرف أهل ذلك الزمان كانت (إشارة عنصرية) لذوي البشرة السوداء متحدرة من عصور الرق والسخرة. ü ومع ذلك تمكن العمدة سليمان، الذي أبلغ شهود مجلسه بوعود (عطية الشامي)، تمكن بحكمته ودبلوماسيته الحاذقة من احتواء الموقف المتفجر وخاطب الجمع الجالس في ديوانه بقوله: إن الفقيد أبن البلدة .. وتوسل الى الشقيلي لأن يوافقه على إقامة العزاء هنا في بيت العمدة. فكان للدعوة وقعٌ حسن طيّب خاطره، فوافق على اقتراح العمدة لتقدير حكيم هو أن يصبح البطل الشهيد فقيد الجميع وفقيد البلد. ü قارئ (رحلة العسكري الأخيرة) لابد سيلحظ، برغم الوقائع والحوادث الكثيفة والمتشابكة التي عالجها الكاتب بسردية- درامية شفيفة، لابد سيلحظ أن الخيط الناظم او موضوع الرواية الرئيسي The Main The هو رؤية الكاتب الناقدة- حد الاستهجان- لواقع الإستعلاء والظلال العنصرية التي طبعت سلوك المجتمع السوداني في تلك اللحظات الفارقة.. ذلك المجتمع الذي كان ما يزال يرزح تحت هجير الهزيمة (الكسرة) في كرري واستعادته عنوة إلى حظيرة الإمبراطورية. ü فغير ما دار في ديوان العمدة سليمان، الذي أسلم قياده لتوجيهات (إدوارد عطية) ووعود الحاكم العام، وانهزم أمام نقض تلك العهود بعد إعدام من تم تسليمهم من الجنود الفارين، نجد أن (سامي جوهر) حفيد عبد الفضيل يرد على أعقابه عندما يتقدم ل(الحاجة سارة) طالباً يد محبوبته (نجوى الشقيلي) تحت حجة أنه ليس زوجاً (كفؤاً) لإبنتها قائلة: إن (بينك وبيننا مسافة، بل هوة يصعب ردمها) ولتوجه له نصيحة حارقة في شكل سؤال: لم لا تقترن بواحدة من أسرتكم.. من قبيلتكم؟، فانصرف سامي مقهوراً دون أن يبلغ رفيقه صدِّيق إبن خالتها بما جرى، ولملم عزاله وتوجه جنوباً في (رحلته الأخيرة). ü سؤال واحد مهم، لم يسعف الكاتب كل حفره وكدحه المضني في سبيل الحصول على إجابة له، وهو: لماذا حدث ما حدث ووقع ما وقع في ذلك اليوم من نوفمبر 1924، وما هي الوقائع المحددة التي قادت للصدام في ذلك التوقيت تحديداً؟، فلا وثائق ولا تقارير استخبارية ولا شهود تكشف ملابسات الحدث أو مُحفّزاته التي فجرت المواجهة العينية.. فبالرغم من التسليم بأن عبد الفضيل كان عضواً أصيلاً في (جمعية اللواء الأبيض) لكن هذا الانتماء ليس كافياً لتفسير ما جرى.. هل قرر البطل مثلاً أن يقف وقفته الأخيرة تلك كمحاولة (إنقلابية) تطيح بحكم المستعمر أو يستشهد دونها وينحت اسمه في سجل الخالدين؟.. أم كانت الخطوة جزءاً من عمل ومُخطط كبير يشارك فيه آخرون- سودانيون ومصريون- في أكثر من موقع في ذات اللحظة لكنهم خذلوه لحظة التنفيذ؟ ليس هناك إجابة تعبئ هذه (الفجوة) أو الفراغ المعلوماتي.. يبدو أننا سنظل هكذا وعلى هذا الحال حتى إشعار آخر. ü تنويه: ورد سهواً في الحلقة الأولى من هذه الإضاءة إسم السفير جمال محمد (ابراهيم) على أنه جمال محمد (أحمد)، وسبب هذا الخلط لا يفوت على فطنة القارئ.. فكلاهما سفير وكلاهما كاتب أديب، ونبهني جمال الى أنه كثيراً ما يقع مثل هذا الارتباك لتشابه الإسمين الأولين، لكنه على كل حال سعيد- كما قال- أن يتم الخلط بينه وبين عميد الدبلوماسية السودانية وشيخ الإبداع أستاذه جمال محمد أحمد، رحمه الله.. وآخر دعوانا اللهم أصرف عنا دهمات "الزهايمر" واحفظ لنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا.. آمين.