واليوم.. أحبتي.. أكتب في وجع.. بعيد اً عن الأخبار.. بعيداً عن المداد.. أكتب بعد أن أغمس قلمي في بحيرات دموعي.. في محبرة رعافي.. في حلال دم وريدي.. الحسرة تأكلني والغصة تطعن في الحلق.. والعبرة تخنقني.. تضيق بي أرض الله الواسعة الرحيبة بما رحبت.. ينسحب الضوء من ليل ونهار عيوني.. ويطل اليوم الثامن.. وإعصار القيامة يفزعني.. يجرحني.. يشقيني ويبكيني.. ولكن ماذا..؟ ولماذا..؟. مهلاً إنه أسبوع من الوجع.. واستدعاء ذكرى الأحبة.. وتلمظ طعم الفراق.. والبعاد والوداع.. والرحيل..رحيل الأحبة والأصدقاء.. رحيل الطيور الملونة.. التي ملأت حياتنا زهواً مزهواً.. رحيل سحابة في جوف الشتاء هيمانة تحلم بالخريف.. وفي كل عام.. من هذه الأيام.. وتحديداً.. في هذا الأسبوع تنفرج السماء.. وتندفع الأضواء وتدق.. أجراس الذكرى والتذكارات المحفورة في القلب والعقل والكبد والفؤاد.. في مثل هذه الأيام.. من عام مجلل بالسواد.. متسربل بالرماد.. كان غياب.. المبدع.. الصديق.. الرفيق.. الرقيق.. «الدوش».. أنا لا أذهب مطلقاً.. لأي حفل تأبين أو مهرجان خطاب ذكرى وتذكار وقراءة أشعار.. هو فقدي.. أنا.. أنا وحدي.. من يكن.. قيثارة للوطن.. من يكن.. حادياً ومغنياً ومنشداً للوطن.. هو ملك لي وحدي وهذا جنون وغيرة.. وترفع طاؤوسي.. يبغضه الناس.. كل الناس إلا في هذا الموضع.. واحتفلت.. وحدي.. في قلب منزلي.. بعيداً.. عن المدام.. بعيداً.. عن محمد... بعيداً عن أيمن.. بعيداً من هند.. قريباً من جهاز التسجيل محلِّقاً غير بعيد عن المجرات البعيدة.. حيث يدور ويناجينا ويحدثنا الدوش.. كل ذلك تحت وابل مطر دموعي.. واسمع.. واستمع واستمتع في خشوع طهر التراتيل.. المتصوفة في حب الوطن.. وشعب الوطن.. يأتي كالرعد منادياً تلك التي في أحزان عيون الناس.. وفي الضل الوقف مازاد.. وتأتي سعاد.. ويالروعتك يا سعاد.. وأنت تهبين الوطن.. رائعة الدوش سعاد.. وتأتي الساقية.. والتي هي لسة مدورة.. رغم جهل الجاهلين.. وكذب المتخرصين.. وغشامة بعض الفنانين.. الذين يفتون بما لا يعلمون.. ولا يعرفون... ولا يفقهون.. وفجأة ينقبض صدري.. أحس بالاختناق.. استجدي عبثاً.. دفقة .. أو «حتة» أو «حبة» أكسجين واحدة .. من كل هذا الفضاء المفتوح .. والدوش .. ينشد .. وتطلعي من صوت طفلة وسط اللمّة منسية .. وأكفكف دموعي .. واستغفر الله..مردداً.. نضر الله وجهك أيتها الطفلة الجميلة.. وفي العلياء أنت أيها الفارس المحفورة سيرته في القلوب.. الراكزة بسالته في الدروب.. أما انت فقاتلك الله أيها القاتل الشرير.. وينتهي.. البكاء والعزاء متوهماً.. أن صفحات الحزن قد طواها.. مرور الأيام.. حتى أفاجأ.. غداً.. بطعنة أخرى.. بل ذكرى طعنة دامية مازالت تنزف.. لثلاثة عقود وتزيد.. وصحفيه نابهة.. جريئة.. تستنطق.. مريم روبين.. أنا لا ألوم.. الأستاذة رفيدة مطلقاً.. فقط لأن ناقل الكفر ليس بكافر.. ولكن لقد تقيأت مريم روبين.. تلك الصحفية الكاذبة الصغيرة في «مخها».. وروحها.. وقلبها.. وفكرها.. وليست فتية شابة.. في شرخ وريعان الصبا.. فالمرأة.. تخطو الآن في سرعة الكونكورد إلى القبر.. ولأنها مزورة للتأريخ.. كان لابد أن تخلف آثاراً .. من البؤس والتلفيق.. والتزوير.. وأطالع الحوار.. بعيون أعشاها البكاء.. مهلاً ليس البكاء.. من تلك الإجابات الكاذبة المحضة في التلفيق.. أنا أعرف.. وحتى «أجهل» مواطن سوداني.. يعرف بل هي محفورة في قلبه تلك الأحداث بأطراف أسنة وخناجر.. كلنا يعرف.. إنّ عبدالخالق.. مطلقاً لم يدخله زبانية مايو في قفص.. وهم يطوفون به منطقة أمدرمان ليكون عبرة هذا محض هراء.. كلنا نعرف.. أين اعتقل نميري.. وكيف هرب من الاعتقال.. المهم.. إن كل تلك الأحداث كما صورتها مريم روبين.. هي من وحي خيالها المريض.. كلها كذب وتدليس وتلفيق إذن ما الذي أبكاني.. الذي أبكاني.. وهو الحقيقة الوحيدة في كل ذاك الحوار هي الصورة.. صورة نميري وأمامه عبدالخالق موثوق اليدين.. نميري يرفع ورقة ينظر لها عبدالخالق.. وتنفجر العيون بالدموع.. لأن مريم تجلس بجانب نميري لا يكاد يفصلها عنه نصف متر.. تكتب على ورقة تضعها تماماً في «تربيزة» نميري هنا فقد أدركت عمق المأساة.. مأساة الوطن.. وتلك المهانة التي الحقها به نميري يستجوب.. معتقلاً.. في أشد أيام التاريخ خطراً.. أمام مريم روبين.. ياللمهزلة.. ويا للعار الذي لن ينساه أو يتخطاه التاريخ.. أبداً .. أبداً.. أبداً..ووجع آخر .. في ثنايا المقابلة.. وهو.. أن الحكومات.. كل الحكومات.. تفرش.. بالموكيت.. لأي صحفي أجنبي.. حتى وإن كان شقيقاً.. وتوصد الأبواب.. في وجه الإعلاميين السودانيين.. لحماً ودماً.. وأمة قد فت في ساعدها.. بغضها الأهل وحب الغرباء.. والعرض الشائة مازال مستمراً.. ويالفداحة الجرح.. جرح تلك الأيام الغابرة.. والإعلام السوداني ينقل أحداث ووقائه.. محاكمات الشجرة من (الأخبار) و(الجمهورية) المصريّتين.