في الحلقة الماضية -الأربعاء- وقفنا مع د. أحمد سيد أحمد على الأسباب العملية والنفسية التي دفعت الباشا الكبير وقادة حملته في السودان الى الانتقال بالعاصمة من سنار الى مدني الى شندي حتى انتهى بهم الامر الى الخرطوم.. وهي اسباب كما فصّل الكاتب تتعلق بمشكلات البيئة والمناخ الطارد للجنود الاجانب من الناحية العملية اذ اصابت الكثير منهم بالامراض التي افنت جزءاً مقدراً من رجال الحملة.. كما لم تكن شندي ملائمة بعد حريق الباشا والتذمر والتمرد الذي ظهر في بعض القبائل الشمالية. ٭ كان اول من وصل الى موضع الخرطوم في نحو منتصف سبتمبر سنة 4281 من رجال محمد علي هو عثمان بك، ولم يكن بالموضع من آثار الحكومة الجديدة الى معسكر للجند وسوق القش.. وبما أن عهد الرجل كحاكم كان قصيراً اذ انتهى في مايو 5281 بوفاته، وكان وجوده بالمكان استمراراً لحملة الدفتردار، حيث تم تحطيم جامع «ارباب العقائد» أول بيوت الله في هذه البقعة وقتل امامه وخليفته ويدعى «الأرباب ود مالك» على يد الحاكم عثمان بك، وكان من نتيجة ذلك ان انفض المريدون القاطنون حول المسجد والخلوة الذين اعطوا «محل أرباب» وحلة المقرن شكلها العمراني التقليدي الذي كان عليه قبل الفتح. ٭ ومع ذلك يمكن اعتبار فترة حكم عثمان بك البداية الفعلية لعهد جديد وايذاناً بميلاد العاصمة الجديدة الخرطوم، فقد نقل عثمان بك اقلام الحكومة والمخازن من ود مدني اليها، واقام بعض المنازل للموظفين، وأكثر من ذلك كسبت المدينة حديثة النشأة بعض الأهمية التجارية بين مدن السودان. ٭ خلف عثمان بك «محو بك» الذي اخذت «شجرة ماحي بيه»- بنطق السودانيين- اسمها منه، فحضر بجميع عساكره الذين رافقوه في سنار وبربر وشندي الى الخرطوم، وكان عهده قصيراً ايضاً لم يتجاوز الثمانية شهور، ومع ذلك فقد اقام بناء من الطوب الأخضر «اللبن» خصصه لاقلام الحكومة ولسكنه في نفس الوقت، والذي انتهى بآخر الامر مع التعديل والتغيير الى «سراي الحاكم العام» او القصر الجمهوري الحالي.. وحتى نهاية عهد محو بك، الذي توفى ودفن في منطقة «الشجرة» لم تكن الخرطوم قد أخذت سمت المدن ولا قوامها، ولم يتعد سكانها الستمائة.. ٭ لذلك يُرجع المؤرخون الفضل الى الحكمدار خورشيد بك- ومنهم كاتبنا د. احمد سيد احمد- باعتباره المؤسس الحقيقي لمدينة الخرطوم.. فخورشيد امتد حكمه من يناير 6281 الى ابريل 8381، حيث عمل بهمة ونشاط من اجل اعمار المدينة واخراجها الى حيز الوجود.. ولم يستغرق منه هذا الامر في الواقع سوى ثماني سنوات.. إذ كرس اهتمامه في البداية لازالة آثار العدوان التي خلفها منهج الدفتردار وعثمان بك العنيف الذي دفع العديد من سكان البلاد الى الهجرة الى حدود الحبشة ومنهم نمر مك الجعليين.. واستغرقت جهود التطمين والتصالح السنوات الاربع الأولى من حكمه، وعمل لبلوغ ذلك الامر بتوجيه الخطابات الى سائر الجهات بالامان.. فرجع كثير من الأهالي الى اوطانهم، بالاضافة الى اعفاء كبار القوم من الضرائب المفروضة على اراضيهم الزراعية، وكان لهؤلاء الأعيان دورهم في تطمين الاهالي وحثهم على العودة. ٭ قبل خورشيد لم يكن بالخرطوم اكثر من ثلاثين منزلاً طينياً، بالاضافة إلى ثكنة الجنود الاتراك القديمة وبعض بيوت القش اضيف اليها بيت الحكمدار، او سراي الحكومة فيما بعد.. شرع خورشيد في اقامة الجامع الكبير اواخر العام 9281، «وشرع اهل البلد في العمارة وخورشيد كان يمدهم بالألواح والاخشاب ترغيباً لهم، فيما امر بازالة بيوت الشكاب والقطاطي والزرائب» على قول احمد كاتب الشونة.. كما اصدر خورشيد اوامره الى الشيخ عبد السلام زعيم المغاربة في حلة كوكو بحفر بقايا مدينة سوبا القديمة (شرق النيل) ونقله بالمراكب الى الخرطوم واستدعى عبد السلام اهله، (احراراً وعبيداً) وقاموا بالمهمة المطلوبة ومن ثم قامت المباني في الخرطوم باسرع ما يكون.. كما استعان الحكمدار بطوب سوبا في اقامة مبنى المديرية الواقع غرب السراي مباشرة، وكذلك الجامع، ولم تلبث ان قامت مباني الحكومة حول السراي في جميع الاتجاهات على شاطيء النيل.. وعرفت تلك المنطقة تدريجياً ب«حي المباني الحكومية» وعند الطرف الغربي قامت منازل موظفي الادارة وعرفت ب«محل موسى بك» والى الغرب من ذلك المحل كان جارياً العمل في بناء الجامع، وحوله قام السوق، ويسمى «سوق الدكاكين» بلغة الاهالي، وذلك للتفريق بينه وبين «سوق الشمش» الواقع جنوب الثكنة القديمة، والذي يجري فيه البيع تحت الرواكيب. كما قام في شرق النيل الابيض «حي المراكبية» الذي يقطنه الدناقلة الذين يعمل معظمهم في البحر. ٭ ما يستحق التأمل فعلاً، هو تلك المفارقة المتمثلة في بناء الخرطوم ببقايا طوب سوبا عاصمة مملكة علوة التي انهارت وخربت منذ قرون، وان لا يكون في مقدور البلاد توفير اي قدر من مواد البناء الثابتة، وفقاً لعادات السكان في البناء، حيث تراجعوا واصبحوا يعتمدون على الحطب والقش والطين في بناء دورهم واسواقهم والمرافق العامة ما يعكس حالة التدهور والتراجع الحضاري الذي طال بلاداً كانت لها ممالك قادرة على مجاراة العالم من حولها في مجال التقدم والعمران! ٭ وظهرت احياء فقيرة في جنوب الخرطوم واطرافها الغربية ك«فريق الترس»- ذلك الترس الترابي الذي اقامه خورشيد على ضفة النيل الابيض الشرقية ابتداءً من المقرن لحماية المدينة الناشئة من الفيضان، ومعظم سكانه من الجعليين والفتيحاب بخاصة، كما نشأة «حي الاقباط» في الناحية الشمالية منه، بالاضافة إلى احياء «سلامة الباشا» و«حي العرضة» في شرق المدينة، كما الحقت بعض سواقي المحس- اهل توتي وبري- والحدائق التابعة لها ببعض المباني على الضفة في اواخر عهد خورشيد.. وبالجملة ضمت الخرطوم في عهد الحكمدار المؤسس نحو 005 منزل غير الثكنات معظمها من الطين حتى سور السراي، ما عدا المسجد والسوق وبعض الدوائر الحكومية التي بنيت من الآجر (الطوب) المنقول من سوبا.. ٭ هذا غيض من فيض التفاصيل التي يوردها الكاتب د. سيد احمد عن نشأة الخرطوم وشوارعها ومشكلاتها الطبوغرافية بسبب البرك والخيران التي كانت تقطعها بين ضفتي النيلين، خصوصاً في فصل الامطار والجهود المضنية التي بذلت في سبيل ردم وتسوية ارضها حتى تصبح قابلة لحياة صحية ومعقولة.. وذلك قبل ان ينتقل الكاتب لتتبع التطورات التي انتظمت تجارتها، وكيف تحولت الى عاصمة لتجارة السودان من ومع كل اقاليمه، وتجارة الصادر مع مصر واوربا والحجاز ، بما في ذلك دارفور التي أُلحقت بالبلاد في عام 8781.. وفتحت طرق القوافل التي اصبحت وجهتها الخرطوم منها و إليها.. مع البدء في دراسة انشاء السلك الحديدية.. وربط الخرطوم بريدياً مع الجزيرة اولاً ثم مع باقي الاقاليم، خصوصاً كردفان التي كانت تشكل اعظم موارد التجارة من حيث الكم والتنوع.. كما بدأت تمت العاصمة الجديدة ببصرها نحو الجنوب خصوصاً اعالي النيل الابيض.. كل ذلك قبل ان ينتقل د. سيد احمد ليلقي ضوءاً كاشفاً على مجتمع الخرطوم الذي امتاز بالتنوع سواء بالنسبة للسكان المحليين بقبائلهم والوانهم وسحنهم المتباينة او بالنسبة للاجانب بمختلف جنسياتهم ومشاربهم وادوارهم الاقتصادية والاجتماعية في النهضة التي بدأت تنتظم البلاد بعاصمتها الحديثة «الخرطوم». ٭ الكتاب يستحق القراءة، واكثر من ذلك يجب ان يكون محل اهتمام الباحثين الاكاديميين بالنقد والتحليل، واعتماده كأحد المراجع المهمة لدى شُعب التاريخ في الجامعات السودانية، دون ان يعفيه ذلك طبعاً من مقتضيات البحث العلمي ب«الجرح والتعديل».. والكتاب يحتوي أيضاً على قصص طريفة ومسلية قد نعود إليها في أوقات لاحقة إن شاء الله.