وبالأمس كان العيد.. بل بالأمس كانت الذكرى.. ذكرى استقلال الوطن البديع.. وها هي تسعة وخمسون عاماً تنسلخ من عمر الوطن.. ومن عمر هذه الأمة النبيلة الأصيلة المتحضرة.. نعم يجتاح الناس في هذا اليوم الفرح العاصف المعربد.. تزدهي الساحات وتستحم بالأنوار والنيون الطرقات.. ترتفع الرايات خفاقة راقصة مع دفقات الريح.. تنفرد تلك الجباه «المصرورة» ويحل الابتسام مكان تلك «التكشيرة».. يفرح الكل.. إلا.. أنا.. يجتاحني الوجع.. وتهطل من عيوني الدموع.. حالي مثل حال «المتنبيء» ذاك الذي أذله الطموح.. وأهانته رغباته أو أحلامه.. الشاسعة بأن يحكم «ولاية» أو أن يكون على رأس إمارة.. «صراحة» وفي صدق واعتراف نادر أقول.. إن الرجل هو أدق من أي كاميرا رقمية في نقل الصورة.. بل أنه يفوق كل الشعراء من فجر التاريخ وحتى الآن.. في «تشريح» حتى الروح بالكلمات والحروف.. وهاكم الدليل.. في يوم أحد الأعياد.. وهو بعيد عن سيف الدولة.. الذي كان قد أغرقه بالمديح وما وجد إلا صداً وصدوداً.. قريب من «كافور» الذي أعرض وتمنع وأبى أن يمنح الرجل ما يريد.. في يوم العيد ذاك والناس يسكنها الفرح الخرافي.. قال المتنبيء.. أصخرة أنا ما لي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد.. الآن يا أحباب أعلن أصالة عن نفسي ونيابة عن روحي بأني لا تحركني في أي ذكرى للاستقلال هذي المدام ولا هذي كل أغاريد شارع النيل.. وفرح الفنادق.. ولا ألعاب تلون السماء بالوان الطيف قوس قزح.. بل أنا في وسط فرح الناس صخرة صماء.. ليس بها «سبيبة» من فرح.. ومن أين يأتني الفرح وأنا وطني يغرق كل عام.. في لجة الحزن والقتال والجدال.. والأسى.. يدوي رأسي كما الطبول.. وأسئلة تدور ك«حجر» الطاحونة.. توجعني وتقتلني وتدميني.. إلى متى البنادق في السماء.. بنادق سودانية تصوب إلى صدور سودانية.. إلى متى يظل سماء الوطن مشتعلاً باللهب.. إلى متى قاموسنا يحتشد بكلمات حفظناها من كثرة التكرار.. إلى متى «تقد» آذاننا كلمات.. الاستهداف.. والحصار.. والتطويق والكيد.. ثم إلى متى تطير في الفضاء.. وتهطل وابلاً من المطر.. كلمات ما كانت يوماً أبداً تقترب مجرد الاقتراب من قاموسنا قاموس الوطن البديع.. مثل خيانة.. وعمالة.. واستقواء بالأجنبي.. ثم.. إلى متى ذاك الشعور بل التوهم الذي يتملك الأحبة والأحباب «الإخوان» انهم وحدهم الذين وقر الإسلام في قلوبهم.. وأنهم وحدهم الفرقة الناجية.. وأنهم وحدهم الشرفاء وأنهم وحدهم الذين يحق لهم حكم البلاد.. وانهم وحدهم دون سائر كل الناس الحفيظ على مقدرات الوطن.. ثم إلى متى تتحقق وعودهم التي ظلوا يطلقونها عند كل «ميزانية» وبشرياتهم التي يطلقونها في الفضاء عند كل عيد..