قطار حلفا يحتشد بالمسافرين. أُنثى خلاسية ذاتَ عكش، تُرفرِف أشياءها بين جراجير. نساء يلتحِفْنَ السّواد. نساء في هيئة داعِش. يتقرفصن كالمستحيل في مقاعد الدرجة الثالثة. فى حجورهن وِلدان و صبايا.. تنتظرني دنيا من الرُطانة و الرحيل.. الغربة والغبار..فأي بلاد الله تأويك يا عبد الله، وأنت بمثل هذا الجُرح..؟ ذاك المتوكي هو المكساري. يضْرع القطار جيئة وذهاباً، كائن نشط .إستعربَ، ثم تماثل للشفاء بمحجّته الحمراء..هكذا يبدو لي من دفاتره، ومن فُصاد جبينه..! محطة سكة حديد الخرطوم، تئز بالحر، وبروائح الصُّنام، وأنفاس النّيم. شقشق الصبح وغدت الطيور، ولم أشرب قهوتي بعد. قرأت أمام بوابة القَمرة تعاويذاً حفظتها عن جدي..أستحضرت روحاً قديماً حتى يفتحوا لي كوة نحو أولئك نساء في سواد الدّعشنة.. قال ابي، أن المتوكي دائماً ما يكون رقيق الدين. حين أُعدت عليه شيئاً من سيرة الشيخ إدريس ود الأرباب، تهلل وجهه و قال: هذا هو أكبر اولياء السودان..التقوى في القلوب يا أبي، وما أحتاجه الآن فقط إذناً بالسفر..تعاويذي صعدت ، شقّت لى طريقاً نحو قمرة النساء. الرطانة التى لن افهما ، ستكون حائلاً ضد استجوابي. العيون الجميلة تُبدي شرورها .أعلم أني غير مرغوب في هُنا ، لكن القطار نفث هواءه، وبعد قليل ينفخ بوقه. من نافذة القطار رأيت اصطفاف العسكر داخل القيادة..لا مكان لي هنا. فالمُلْتَحي «تمّ النّاقصة، وأخذ التّمام»..! نظرات الدّواعِش تلاحقني. أهرب منها و أتفرّس في وجوه المودِّعين. في هذه اللّحظة تبدو محطّة سكة حديد الخرطوم مثل شراريم القرى الغارقة. المكان أشبه بمستعمرة افتراضية، تتبع لدولة حلفا دغيم.. تحت عمود الصنفور، رأيت واحدةً في لون القمح. شعرها ينسدل ، فتزيحه عن عينيها و لا يهدأ..تلوِّح بيدٍها لمسافر، وتمسح دمعاً بالأُخرى.. يا الله..هذه العيون أيضاً، تعرف النّحيب..! هل بين هؤلاء السادة الجدد، من بات سكراناً ، وأهله جِياع..؟ هل بين أهالي حلفا، من لا يأكل الشطّة..! أشُكّ في ذلك. الخرطوم عطشى.الخرطوم أخذت زُخرُفها ، كأنّها « مجروس». التّرابي يُضاحِك مُجاهديه. يحدّثهم عن دول الاستكبار، وعن الحور العين. ومصنع كِنانة يُنتِج أطنان السُّكر، التي لا نعرف، أين تذوب..! المُجنّدون الجُّدد كأعواد الخيزران، يركضون في ماراثون الدفاع الشعبي.. يتصايحون في جنبات الشّارع: «للجنوب طوالي، للجنوب طوالي»..! و أنا، هاربٌ نحو الشمال..راحلاً دون تذكرة، أو منديل وداع..سأترُك لهم هذا الوطن ، إنّه الآنَ، دولتهم العظمى، التي لا تُبقى غير العظماء..عند الجبال العتيقة بعد محطّة الجيلي ،جاءني المتوكي. نفَشَ القطار فى صحراءٍ جفّ ريقها، لكنّ هذا الكُمساري إن كان مِنهُم فسيرميني في قبضتهم، أو في أي ناحية، من حوش بانّقا..! حين يسألني عن التّذكرة سأقول له ماذا..؟ها هو يتبختر نحوي كعقرب..عجوز وسيم. جلحاته المشوبة بالحذر تذكرني بندوة الحزب في الميدان الشرقي..هذا الرّجُل شبه أعمى.. الفارق بينه و بين قبيله العُمي، هذه النظارة السّميكة .إنّه مثلي مثلك،، أفقرَ عينيه دون جدوى ،وهو يقرأ «نهاية التّاريخ»..! سألني عن تذكرة السفر، فحدثته كاذباً عن النضال..! قبل أن يستوعَبني، لعنت له سنسفيل بروستاريكا غورباتشوف..و هكذا أعلنتُ نفسي، كأحد شرفاء القضية.. هل لديك إعتراض يا زميل على خروجي ، بهذه الطريقة، «من دار الإيمان الى دار الكفر»..!؟ ضحِك المتوكي عالياً بين دارٍ ودار، ثم قال لي :هب أنّك الآن فى القاهرة، كيف ستحيا هناك..؟ رددت عليه السؤال: هب أنني استبقيت روحي داخل هذا المجروس، كيف سأحيا هنا ، مع هذا «التّحمير»..؟!