من حقي، ومن حق أي مراقب أن يسأل الأممالمتحدة والمجتمع الدولي الذي يصرف مئات الملايين من الدولارات على بعثة الأممالمتحدة «لحفظ السلام» في السودان UN MIS))، التي يصل قوامها إلى أكثر من عشرة آلاف جندي، ما هو الدور الحقيقي الذي تقوم به هذه البعثة العسكرية التي تتحصن وراء الأسوار العالية والأسلاك الشائكة والمصدات الأسمنتية في الخرطوم وفي كل مواقع وجودها، والتي تتزاحم عرباتها الحاملة لشعار (UN) في الشوارع جيئةً وذهاباً إلى تلك القلاع الحصينة؟ السؤال تفرضه علينا جميعاً حالة التوتر التي تسود العلاقات بين القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي، والتي اتخذت في البداية شكل اتهامات متبادلة من الطرفين حول حشود يقوم بها كل طرف على الحدود الشماليةالجنوبية، حتى انتهت أخيراً إلى اتهام علني من الناطقين الرسميين باسم الجيشين عن تعديات وهجمات عسكرية بالذخيرة الحيّة. وعلى محدودية الاشتباكات المعلنة، لكنها نذير شؤم باحتمالات التصعيد والتمدد، إذا لم يتم إطفاء النار المتقدة تحت الرماد وفي الوقت المناسب مع اقتراب موعد الاستفتاء على تقرير المصير للجنوب وأبيي، ومع الخلافات الناشبة والمعلنة بين شريكي نيفاشا حول قضايا واستحقاقات ما قبل وما بعد الاستفتاء.وقبل أن نعود إلى موضوع هذه «الإضاءة» الأساس، وهو دور «اليونميس» في كل هذا الذي يجري بحكم تفويضها ودورها المرتجى، لابد من استعراض وقائع التصريحات الصادرة من الناطقين الرسميين باسم القوات المسلحة من جهة وباسم قوات الجيش الشعبي من الجهة الأخرى، حتى نتبين التناقض الصريح بين إفادات الناطقين وغياب اليونميس والناطقين باسمها، خصوصاً وهذه الإفادات تصدر بعد أقل من 48 ساعة من اجتماع مجلس الدفاع المشترك، الذي خصص أساساً للنظر في الشكاوي والاتهامات المتبادلة بين الطرفين. ü الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة الصوارمي خالد صرَّح لقناة «الشروق» مساء الاثنين بأن «قوات الجيش الشعبي نفَّذت هجوماً على القوات المسلحة بمنطقة «الزمالي» شمالي حدود الأول من يناير 1956 بخمسة كيلومترات داخل حدود ولاية سنار، وأن الهجوم كان بسرية مشاة مزودة بأسلحة ثقيلة، وأثبت وفد عسكري زار المنطقة وقوع الحادث، وقال «إن الهجوم الذي وقع يوم السبت تم التكتم عليه، وذلك إلى حين التقصي والتأكد من صحة المعلومات. وعلل الصوارمي أسباب الهجوم الذي نفذه الجيش الشعبي ب«امتناع مواطنين عن دفع جبايات تفرضها تلك القوات على أهالي المنطقة الحدودية». وقال إن «المعركة استمرت زهاء الساعة، وإن تأخر وفد القوات المشتركة لتقصي الحقائق جعل وزارة الدفاع ترسل وفداً للتحقق والذي أثبت وقوع الحادث، وقال أيضاً إن «القوات المسلحة صدت قوات الجيش الشعبي وأجبرتها على التراجع إلى جنوب حدود 1956» مضيفاً «أن ما قام به الجيش الشعبي يخالف ما تم الاتفاق عليه في اجتماعات مجلس الدفاع المشترك الذي عقد في الخرطوم أخيراً».. هذا هو ملخص إفادات الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة الصوارمي خالد سعد. ü أما رصيفه الناطق باسم قوات الجيش الشعبي، التابع للحركة الشعبية وحكومة الجنوب كوال ديم فقد نفى من جانبه اتهام الصوارمي والقوات المسلحة بأن الجيش الشعبي قد هاجم «الزمالي»، وقال في تصريحات لجريدة - «الصحافة» الثلاثاء 2 نوفمبر- إن القوات المسلحة رفعت في 27 أكتوبر الماضي شكوى في اجتماع مجلس الدفاع المشترك، تتهم فيها فصيلاً من الجيش الشعبي مكوناً من 29 جندياً بتهديد مواطنين في منطقة «العسل» بجنوب سنار. وأضاف كوال «فكيف ترفع الشكوى بتاريخ 27 أكتوبر ويتحدثون عن يوم 30 من ذات الشهر، وكيف تبدلت المنطقة من العسل إلى الزمالي؟» وقال إن تلك التناقضات تؤكد عدم صحة ما أثير، وأشار إلى أن الحادثة لا تستند إلى أي حقائق. وذكر كوال أن الجيش الشعبي نفى تماماً في اجتماع مجلس الدفاع المشترك صلته بالواقعة، وأكد أنه لا يوجد لديه جنود بتلك المناطق البعيدة، واشتبه في أن تكون مليشيات لمايكل ميوكل التابعة للقوات المسلحة وراء الاعتداء، لا سيما أنها موجودة بجنوب سنار، وأكد أن اللجنة السداسية المشتركة -التي شكلها مجلس الدفاع- أوكل لها التحقق في الحادثة. ü وبالرغم من أني لم أفهم -علاقة الترابط بين الحادثتين في رواية الناطق كوال ديم- «حادثة العسل» التي اشتكت منها القوات المسلحة في اجتماع مجلس الدفاع المشترك يوم 27 أكتوبر، و«حادثة الزمالي» التي وقعت يوم السبت 30 أكتوبر، كأساس لنفي الأخيرة بسبب الشكوى من الأولى أو العكس، لأنه -منطقياً- ليس هناك ما يمنع وقوع الحادثتين اللتين يفصل بينهما ثلاثة أيام، إلا أنني ليس في وارد ترجيح رواية على الأخرى، بحكم أنه لا سبيل أو وسيلة لدي لإجراء تحقيق مدقق في أي منهما، لكن «الصحافة» أوردت في نفس اليوم أن فرق تحقيق قد وصلت في اليوم السابق (الاثنين) إلى مناطق «قوق بار» و«جودة» قرب الحدود بين الشمال والجنوب، للتثبت من اتهامات وجهها الجيش الشعبي يوم (الأحد) لقوة استطلاع تابعة للقوات المسلحة بنصب كمين لقوة استطلاع أخرى تابعة للجيش الشعبي، وأن منطقتي «قوق بار» و«جودة» شهدتا حشوداً لقوات الطرفين أخيراً. وإذا ما أضفنا إلى ذلك حادثة قرية «دبة الفخار» القريبة من جودة، والتي اضطر أهلها لهجرها باتجاه «الحديب» القريبة من ربك حاضرة ولاية النيل الأبيض، والتي تناولناها بالتعليق في «إضاءة» الأسبوع الماضي، وإذا ما أضفنا إليها أيضاً الأوضاع المتوترة في أبيي، والتي أصبحت «كعب أخيل» اتفاقية السلام الشامل، إذا ما جمعنا كل هذا على بعضه لابد لنا من العودة إلى السؤال الأساس الذي هو موضوع هذه «الإضاءة»، وهو: ماذا تفعل قوات اليونميس بالضبط في السودان؟!، وهو سؤال ينسحب بالضرورة كذلك على رفيقتها «اليوناميد» الأفريقية الأممية في دارفور. فكما هو معلوم بالضرورة فإن تشكيل أي قوة دولية لحفظ السلام من جانب الأممالمتحدة وإرسالها إلى مناطق النزاع، يعني أن تلك القوة هي المسؤول الأول والأخير عن حفظ السلام إن لم يكن حماية المدنيين حال اندلاع إي اشتباك عسكري، وقبل هذا وذاك المراقبة وإبلاغ جهات الاختصاص -وهي في حالتنا مجلس الدفاع المشترك ومفوضية التقويم والتقدير لاتفاقية السلام- بأي خروقات تقع من جانب إي طرف من أطراف النزاع، ولكن واقع ما يجري على الأرض وما نسمعه عبر الفضائيات ونتابعه على صفحات الصحف فإن هذا الواجب قد تخلت عنه قوات الأممالمتحدة لحفظ السلام في السودان للناطقين باسم الجيشين -القوات المسلحة والجيش الشعبي- وإذا كانت هذه القوات «ذات التكاليف المرتفعة» لا تقوم حتى بأبسط واجباتها، وهو مراقبة حركة القوات ورصد الخروقات التي تقع من جانب أي طرف من الطرفين، فإن وجودها في بلادنا يصبح في حقيقته ليس أكثر من نزهة وديكور مدفوعة الأجر بالملايين، وهذا بدوره يقودنا للسؤال: هل نحن حقاً في حاجة للمزيد من المتعطلين والمتنزهين من أمثال هؤلاء؟!