كل أقوال وأفعال الولاياتالمتحدة تظهرها كقابلة مصرة على إخراج دولة انفصالية في جنوب السودان بولادة قيصرية قبل الأوان خطيرة على الأم والجنين معا، فالظروف الطبيعية هي التي تحدد ولادة الدول تماما مثلما تحدد الطبيعة ولادة الكائنات الحية، فتحديد موعد اصطناعي لولادة دولة في جنوب السودان لا يكفي وحده لولادتها، وكل المؤشرات تدل على أن تحديد التاسع من يناير المقبل موعدا لولادتها ما زال موعدا سابقا لأوانه لم تتأهل له كل الأطراف المعنية بعد بقدر ما لم تتهيأ بعد كل الشروط اللازمة لولادة ناجحة مقرونة بطلاق قانوني يفرق تعسفيا بين الأم السودانية ووليدها الجنوبي. وجنين هذه الدولة كان في البداية فكرة حظيت بالرعاية الكاملة لدولة الاحتلال الإسرائيلي قبل أن تتحول إلى حمل غير مشروع - لا طبقا لميثاق الأممالمتحدة الحريص على الوحدة الإقليمية لدوله الأعضاء ولا وفقا لما اتفقت عليه دول منظمة الوحدة الإفريقية ثم الاتحاد الإفريقي بعدم تغيير الحدود المصطنعة الموروثة من الاستعمار الاوروبي ولا حسب المفهوم المتفق عليه للأمن القومي العربي الذي تقزم من الطموح إلى الوحدة أو الاتحاد العربي إلى اكتفاء جامعة الدول العربية بالاتفاق على صيانة الوحدة الاقليمية لدولها الأعضاء- وبغض النظر عن مشروعية أو عدم مشروعية مطالب السودانيين في الجنوب من الحكومة المركزية في الخرطوم وعما إذا كانت مظالمهم وهمومهم تسوغ لهم التمرد عليها، فقد تكون هذا الحمل في عتمة أمدته بأسباب الحياة خلال الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفياتي، لكنه كان دائما في صلب الاستراتيجية الأمريكية- الإسرائيلية للسيطرة على القارة السوداء كعمق استراتيجي للوطن العربي ومنطقة صراع مفتوحة على النفوذ والثروات بين القوى الدولية الكبرى. إن التناقض الكامن في الرفض الأمريكي القاطع للانضمام إلى قانون روما للمحكمة الجنائية الدولية ومسارعتها إلى ابرام عشرات الاتفاقيات الثنائية بالاكراه والضغوط حتى مع دول اعضاء في هذه المحكمة خشية تطبيق أحكامها على قادتها وجنودها ومواطنيها وسعيها المحموم في الوقت نفسه إلى تنفيذ مذكرة التوقيف التي أصدرتها هذه المحكمة نفسها بحق الرئيس السوداني عمر البشير هو تناقض يكشف دون لبس حقيقة الأهداف الأمريكية في السودان التي لا علاقة لها بحق الشعوب في تقرير المصير أو بالقانون الدولي أو القانون الإنساني الدولي أو حقوق الإنسان التي تسوقها كمسوغات للتدخل في شؤونه الداخلية. ويكاد الانشغال الأمريكي بالسودان اليوم يطغى في أولويته حتى على الحربين اللتين تشنهما الولاياتالمتحدة على أفغانستان والعراق، ولو خصصت الادارة الأمريكية مجرد جزء من انشغالها هذا لحل الخلافات بين وكلائها المحليين في العراق ربما ما كانت المنطقة الخضراء في بغداد ما زالت دون حكومة بعد مضي أكثر من ستة اشهر على انتخابات طبلت لها واشنطن وزمرت باعتبارها فاتحة عهد للديمقراطية والأمن والاستقرار في البلد العربي الذي دمره غزوها واحتلالها. لا بل إن هذا الانشغال يطغى حتى على الانتخابات النصفية للكونغرس خلال اسبوعين مما يؤكد بأن الاستراتيجية الأمريكية في السودان ثابت أهم بكثير من متحركات أي خلاف بين الحزبين اللذين يتناوبان على حكم البيض الأبيض. فعلى ذمة الأسوشيتدبرس يوم الجمعة الماضي نقلا عن مسؤولين في إدارة الرئيس باراك أوباما يعقد البيت البيض هذه الأيام ما لا يقل عن ثلاث اجتماعات أسبوعيا حول السودان بينما يحصل أوباما على تقارير يومية حول تطورات الوضع فيه، لأنه كما قال يعتبر السودان «في رأس أولويات» إدارته بعد أفغانستان والعراق، وتتفق معه في ذلك بريطانيا التي سترأس مجلس الأمن الدولي الشهر المقبل،. ويحظى أوباما في ذلك بدعم الكونغرس، ولهذا السبب كان السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بالكونغرس في السودان أيام الجمعة والسبت والأحد الماضية، ليصرح بأن كل المصادر الموثوقة تشير إلى أن السودان الجنوبي سوف يدلي بصوته لصالح الانفصال. ولا يجد أوباما وإدارته أي حرج أو تسرع في تحديد نتائج الاستفتاء المقرر أوائل العام المقبل على مصير جنوب السودان مسبقا بأن الانفصال هو النتيجة الحتمية للاستفتاء، بلغة ولهجة واثقة قاطعة «تؤكد» بأن الانفصال هو ما تسعى إليه واشنطن فعلا، لا ما يسعى إليه السودانيون الجنوبيون، خلافا لكل إرث الرئيس البشير والمرحوم جون قرنق في الحث على الوحدة التي طالب الجنوبيون بها في الأصل مباشرة بعد أن رفع كاهلهم نير الاستعمار البريطاني. وقد كان أوباما صريحا وواضحا عندما تخلى حتى عن الحد الأدنى من اللباقة واللياقة الدبلوماسية ليقول بضمير المتكلم عن نفسه وبلاده، (إن ما نحاول أن نفعله الآن هو أن ننظم الاستفتاء)، وكأنما كان يتحدث عن تنظيم استفتاء في إحدى الولاياتالأمريكية لا عن استفتاء في بلد أجنبي ذي سيادة قرر أطراف الصراع فيه بأنفسهم أن ينظموا (هم)الاستفتاء في بلدهم لحل خلافاتهم بطريقة سلمية، قبل أن يضيف (أمامنا اليوم فقط حوالي تسعين يوما لعمل ذلك) حتى يتمكن (الجنوب السوداني) من أن يقرر بطريقة سلمية وقانونية الانفصال لتكوين دولة خاصة به منفصلة عن ما هو كل السودان في الوقت الحاضر، مع أن الاستفتاء بموجب اتفاق السلام بين الخرطوم وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان هو على الوحدة أو الانفصال لا على الانفصال وحده، مما يحول تصريحات سيد البيت الأبيض إلى إملاءات سافرة تحاول أن تفرض على الشعب السوداني نتيجة الاستفتاء مسبقا، وإذا كانت تقارير أجهزة مخابراته تؤكد له بأن هذه هي النتيجة المتوقعة فعلا فإن هذا سبب اجدى لكي يلتزم أكثر بلغة دبلوماسية، فهو رئيس الدولة الأقوى في العالم لا زعيم مليشيا غير ملزمة بالأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول المتحضرة. ومما يكشف حقيقة أن أوباما وإدارته وبلاده يسعون إلى الانفصال في جنوب السودان قوله في خطابه الأخير في الأممالمتحدة:إننا نقود الجهود لتحويل الجيش الشعبي لتحرير السودان إلى قوة أمنية محترفة، طبعا قبل أن ينفصل الجنوب السوداني ودون حتى أي تفكير في التظاهر بالتنسيق مع الحكومة السودانية الشرعية التي ما زالت لها السيادة حسب القانون الدولي على جنوب بلدها، وهذا تعهد بأنه في حال عادت الخرطوم إلى الحرب، فإن الجنوب يمكنه أن يتوقع الدعم الدبلوماسي والعسكري من جيرانه ذكر أثيوبيا وكينيا وأوغندا، وواشنطن ستكون مستعدة لدعمهم كذلك كما قال أحد المعلقين على خطابه. وفي هذا السياق لا يعود مستغربا أن يكون حجم التنمية الدولية التي تقوم بها الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةUSAID التابعة لوزارة الخارجية في المرتبة الثالثة بعد أفغانستان وباكستان عالميا، ناهيك عن حجم مماثل لنشاط المنظمات غير الحكومية الأمريكية والدولية التي توجهها الإدارة الأمريكية أو حلفاؤها.