٭ خلقت الطريقة القادرية تماسكاً إجتماعياً، أساسه الانتساب الروحي لمركز القادرية في بغداد، ولممثلي المركز مركز السلطة بالداخل. على هذا الأساس العقدي المرتبط بمركزية السلطة تشذبت الروح القبلية، وأضحت الطريقة قاسماً مشتركاً بين الربوع.. بدا هذا جلياً واضحاً منذ بواكير عهد الفونج وعند أكبر اختبار لتماسك كيان السلطنة، أي خلال حوادث الصراع بين الفونج والعبدلاب .. فخلال تلك الفترة، فقد اتخذ العبدلاب من دنقلا العجوز حديقة خلفية لهم، وهربوا إليها طلباً للحماية بعد الهزيمة.. و كانت دنقلا هي حاضرة الفرع الآخر للقادرية، الذي أنشأه التلمساني المغربي.. والصلة بين دنقلا وسنار كانت عميقة، بالتجارة وبالهجرة والتصاهر، ثم أُضيف إلى تلك الصلات، عامل جديد هو أخوة الطريق القادري، لذلك لم تنتقل العلاقة بين الحاضرتين، إلى مربع العداء بسبب لجوء مناهضي سلطان سنار إلى هناك، إلى دنقلا العجوز.. ويدل النص التالي، على عمق العلاقة بين طرفي السلطنة، وهو نظم نسبه ود ضيف الله إلى الشيخ سوار الذهب، وقد كتبه للتسرية على الشيخ إدريس ود الأرباب، الذي كان قد تشكّى إليه من إنكار الناس لولايته : قال الشيخ محمّد بن عيسى سوار الذهب مخاطباً الشيخ إدريس:»والله لو كان بين الناس جبريلا ** لابد فيه من قال وقيلا/ قالوا في الله أضعافاً مضاعفة ** تتلى إذا رتل القرآن ترتيلا/ أنظر كلامهم في الله خالقهم ** فكيف إذا قيل وما قيلا».. و أقوى من أخوة الطريق، كانت هنالك روابط النهر والقرآن ، ورابط التاريخ المشترك، في مستواه العقدي كما يظهره النص، وفي مستواه المادي، في معنى أن السلطنة سلطنة سنار ما هي إلا أرض كانت ملكاً للنوبة، وهذه الحقيقة كثيراً ما يوردها ود ضيف الله في مدونه على ألسنة مشايخ عديدين في الطبقات.. بفضل هذه الصلة الحميمة، بين شمال السلطنة وجنوبها، تيسر للشيخ إدريس ود الأرباب استثمار علائقه الأسرية بين طرفي النزاع الفونج والعبدلاب- لإنجاز صلح يعيد الهاربين من العبدلاب إلى ديارهم، ويطفئ نار التوتر، ويهدّئ الخواطر، بعد صراع دموي أطاح برؤوس كثيرة، كان أبرزها رأس زعيم العبدلاب الشيخ عجيب المانجلك.. والنص الشعري المدون أعلاه، يقوم كدليل تاريخي على تسيُّد الفونج أعلى النهر وأسفله، ما جعل هروب أو لجوء العبدلاب إلى الجزء الشمالي من السلطنة، كأنه حالة بحث عن «الأجاويد»، لا تمرد في ركنٍ قصي .. وفي النص التالي، تجد أن أُخوة الطريق، تتجاوز الربط بين أقاليم السودان، وتتمدد فى جهات شرق القارة حتى أريتريا، فقد قيل في مدح الشيخ بدوي أبو دلق أنظر الطبقات ، ص 117 ، ما يلي: « جبل الهايعة البقِيت لها عُكازة/ من دار صليح إلى شرق بلود البازة/ دهب التاجر الحاقبِلّو العطارة/ مثل الشمس، خَفّيت الجِبّة والعُكّازة».. ..»»جبل الهايعة» أي ملجأ الناس، هو الممدوح صاحب الشأن، أي الولي الذي يلوذ بحماه الناس، وهو صاحب سلطة أي :»عكازة»، وهي تعني السيادة الكاملة على المكان، من «دار صليح»، أي من ناحية كردفان بغرب السودان، وإلى الشرق حتى «بلود البازة» في داخل أريتريا التي تتمدد على ساحل البحر الأحمر.. يمتدح النص الولي، بأنه كالذهب بين البضائع، وأنه شمس تخطف أضواء أصحاب «الجِبّة»، ويعني بهم هنا «أهل الفقه، وأهل «العُكازة» أيضاً، وهم الحكام..الشاهد هنا أن نصوص الشعر تشير بوضوح، إلى أن مكانة الولي لم يكن يدانيها أحد من الفقهاء أو السلاطين، وأن أخوة الطريق كانت من أعمق وأوقى الروابط بين الفيافي النائية..