في قلب السوق العربي اجتمعت كل صور البؤس التي تعربد في قاع المجتمع السوداني المعاصر!! في رسالة سابقة أخذنا عينة واحدة للفحص وهي عينة جموع العاطلين عن العمل ومجالس ستات الشاي العشوائية.. مررنا عليهم وقلنا إن اتساع دائرة العطالة روجت لقهاوي النساء في الهواء الطلق. في هذه المجالس تساءلنا كم هي الطاقات المهدرة في (ضل الضحى) ومن هو المسؤول، وما هو المآل؟ وهل هؤلاء مجرد كسالى يبحثون عن نوع من خدر الهروب أم أن مواعين العمل ضاقت عليهم؟ ومن المفارقات هناك أن صاحب العمارة متخم مالياً، ترك محلاته فارغة وآخر يجلس في ظل الدكان يبحث عن (حق الفطور)! ومع هؤلاء انضمت مجموعة جديدة من عاطلي الدول الأجنبية كالصوماليين والإثيوبيين والآسيويين.. هذه الأجواء روجت تجارة الشاي ووسعت من دائرة تجارة المكوس الحكومية تحت مسمى (النظام العام)، وهناك اتسعت ظاهرة الكشات وفرقت بين «الدفار الكعب والدفار الكويس». بلغ الحال الآن مرحلة أن ستات الشاي أصبحن مراكز قوة؛ حتى أن صاحب الدكان هو الضحية الأولى: إذا قاوم وجودها أمام الدكان تحرك أبناؤها الذين يعملون في الشرطة ضده، وإذا تعاطف معها بحمايتها من الكشة يدخل (الحراسة) من قبل (النظام العام) بتهمة (اعتراض موظف عام). أما أكثر الظواهر إزعاجاً وسط هذه المجالس هم المدخنون وأطفال الورنيش والوناسون «أصحاب الأحاديث الهامسة».. هؤلاء وقفنا عندهم طويلاً ومهما كان مصدر الإزعاج لديهم فهم أخف وطأة على النفس من بؤس مستهلكي القمامة!! لهذا نعتبر ما تقدم نوعاً من البؤس (المهضوم).. أما البؤس الكثيف فأمره عجيب!! *** في السوق العربي مناطق قمامات يرتع فيها الشماسة معروفة للجميع.. هذه القمامات تملأ صباحاً حتى تفيض على الأجناب، ولكن قبل ظهور عربة القمامة عند العصر تكون قد أفرغت. ويا للهول الإنسان هو المستهلك للقمامة، وهذه ظاهرة لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة.. لاحظت ثلاثة أنواع من المستهلكين.. أطفال صغار يتجولون وعلى ظهورهم شوالات بلاستيكية لا أدري أين يذهبون بها لعلهم يبيعونها لرصفائهم. وهناك شماسة كبار السن بينهم معتوه يهز رأسه بطريقة هيستيرية يقفون على القمامة ويتناولون وجبة كاملة من بقايا المطاعم، وقد رأيت أحدهم يشرب بقايا المياه الغازية عقب الوجبة! وهناك رجال كبار السن بجلباب أبيض وعمامة متسخة يملأون أكياسا يحملونها ولا أدري إن كانوا يطعمون به الأسر أم يحملون بقايا القمامة للدواجن.. وعندما تأتي (عربة الوساخة) ينزل بعض العمال بأكياس بلاستيكية ثم يخوضون في محتويات القمامة دون كمامات أو جونتيات أو أي ملابس واقية.. يبحثون شيئاً معيناً عرفت فيما بعد أنهم يبحثون عن القوارير البلاستيكية الفارغة وبلاستيك التجليد يبيعونها لأفراد لإعادة تعبئتها!! وربما في هذا العمل شيء من تجارة تدوير القمامة ولكن... أثناء البحث يبعثرون محتويات القمامة على الأرض، وسائق العربة ينتظرهم بصبر عجيب، ثم يفرغون ما تبقى في صندوق العربة ويذهبون وقد انتشرت بقايا القمامة على جانبي الطريق!! *** صور البؤس هذه غيض من فيض وهي نتائج طبيعية لأمرين مهمين: ظواهر أفرزها اتساع مظلة الفقر.. لم تزدهر هذه الأسواق إلا باتساع أزمة العطالة، وهي في مآل النهائي شاهدة على صحة التصنيف العالمي للعاصمة في الخرطوم باعتبارها أقبح ثالث عاصمة في العالم! ومما زاد من ترسيخ هذه الصورة فشل المعالجات الحكومية بسبب الضعف الفني في الإداريين الذين يتولون إدارة شؤون الخرطوم.. ولو أخذنا فقط عينة من هذا الفشل يكفي أن ننظر في قضية المواصلات: يدمرون المواقف القديمة بقرارات هوجاء ثم يفشلون في بناء الجديد ووضع تعريفة واقعية للمواصلات وحتى تنظيم المرور. القرارات تتخذ في غياب رقابة شعبية؛ لهذا لا يتورعون في دفع الناس من موقع لآخر دون اهتمام لردود الفعل.. ينتشر الجماهير هنا وهناك كقطيع من النمل فقد مساره وقصة موقف شروني الجديد تعطيك دليلاً صارخاً لهذا التخبط.. لو وقف أحدهم على قمة كبري الحرية وألقى ناظريه على الجماهير وهي منتشرة بين خرابات السكة الحديد سيدرك إلى أي مدى بلغ هذا التخبط، بل أصبح الصمت على معاناة الناس وعدم الاهتمام بهم في مواقف المواصلات خللاً أخلاقياً! أما الأمر الثاني فهو غياب الثقافة الدينية الصحيحة لدى حكومات : رفعت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية.. كان من السهل إراقة الخمور وقفل البارات وإغلاق أماكن للقهاوي.. ولكن اقتصار المعالجات على الجانب القانوني العقابي أعادت الظاهرة أقوى من ذي قبل؛ هذه النشاطات لم تتوقف وربما اجتمعت في مكان واحد.. ولو أخذنا مثلاً ظاهرة القهاوي: يمكن القول إن عدد القهاوي التي أغلقتها قوانين نميري(الإسلامية) لم تكن تجاوز قهوتين أو ثلاثة في الخرطوم كلها، ولكن تعالوا نقرأ الآن عدد مجالس الشاي في المربع الواحد ولا نقل السوق العربي كله.. أكثر من عشرين (قهوة) كل ست شاي (عشرة كراسي)!!المصيبة الكبرى أن هذه الظواهر أصبحت الآن جزءاً من ثقافة الإنسان حتى ولو توفرت البيئة التحتية للعاصمة ستجد أن الإنسان هو أول من يدمرها.. وهذا الأمر ملاحظ في مجاري الأمطار.. كلما فعلت السلطات شيئاً ولو يسيراً في إصلاحها تجد المواطن يردمها بالنفايات. قررت مرة أن أحاور أحد زبائن هذه القمامة!! ووجدت امرأة منهمكة في جمع بقايا طعام من بطن القمامة.. سألتها وأنا أقترب منها بحذر شديد: أنتي ما خايفة من المرض؟ المرض «يجي في النوم». لم استطع أن أفهم قصدها ولم أشأ أن استفسر المزيد ربما كانت مشوشة الوعي بمخدرات النفط.. (بنزين - سلسيون). طيب أنتي ما تخافي من الحكومة؟!! قالت متهكمة: حكومة.؟ (ثم صمتت برهة) وكأنها تريد أن تقول لي ما شأن الحكومة أن أكلنا من القمامة أو شربنا من المجاري.. أثناء الصمت كانت تحرك أصابعها بين بقايا الطعام الملوث بطريقة حذقه.. ابتلعت لقمة دسمة من بقايا وجبة سمكية بعد أن دست رأس السمكة في الكيس ثم التفتت إلي وقالت بطريقة حاسمة: (حكومة ما بدي أكل). أفحمتني بمنطق لا يرد، ثم واصلت التهامها لطعام تلك المائدة الملوثة دون أن تلوي على شيء؛ فانسحبت وأنا أضحك على نفسي!!