أعلن وزير المالية (صراحة) إنهم فشلوا في السيطرة على الأسعار، وعاد إلى مكتبه دون أن يلوي على شيء، كما عاد من قبل الوزراء الذين أعلنوا(صراحة) عجزهم كوزير النفط والكهرباء ووالي الخرطوم وغيرهم وغيرهم.. ولاجديد في هذا الفشل، قبل هؤلاء الوزراء بثلاثين عاماً أعلن السيد الصادق المهدي(رئيس حكومة العهد الديمقراطي) أنه عجز عن معالجة السوق الأسود.. وقبل حكومة الصادق بثلاثين عاماً أخرى كان موضوع المعونة الأمريكية هو الموضوع الأول لصراعات حكومة الاستقلال «السيدين»! بعد ستين سنة من (الاستقلال) ما زال السودان يستجدي المعونة الأمريكية ولا يجدها، وهم الآن يشكون مر الشكوى من الحصار الاقتصادي! ومنذ ذلك التاريخ أيضاً لا يملك السودان دستوراً يقيم دولة محترمة متفق عليه!! خلاصة القضية هنا: لم يستطع السودان المستقل أن يبني دولة محترمة وأن يجهز لنفسه طعاماً؛ ظل لمدة ستين عاماً ساحة للفقر والفوضى .. وهذا هو معنى الفشل؟ ولا نعني بالفشل الخطأ أو الإخفاق أو التراجع... كل هذه المعاني عادية بل ضرورية في تجارب البشر والإخفاق هو سبيل النجاح، ولكن الفرق بين (الإخفاق والفشل) هو أن الفشل(إخفاق طويل العمر) وأخطاء متكررة، الفشل الذي نقصده هنا هو إخفاق عمره ستين سنة موثق في تاريخ السودان الحديث !! *** في الحلقة السابقة قرأنا التاريخ على ضوء آراء باحثين أجانب عملوا في السودان.. وبدأنا بنصيب الثقافة الدينية والاجتماعية القبلية باعتبارها من الأسباب التاريخية في الارتباك التاريخي، الذي يعيش فيه السوداني المعاصر وهو يتجرع مرارة الوصايا الدولية وهي أكثر مرارة من وصايا الاحتلال الانجليزي. في هذه الحلقة نواصل مع أخطاء حقبة المهدية والانجليز من بعدهم . بدأ السودان يأخذ إطاره السياسي الحديث مع التركية (عهد محمد علي باشا) في الرابع الأول من القرن التاسع عشر، وأتت بعد ذلك حقبة المهدية والحكم الانجليزي المصري وحكومات الاستقلال، لم يتطور هذا الإطار كثيراً وظل إلى سنوات الرسم النهائي للحدود السودانية عام 1899م، وظل الإنسان نفسه تتقاذفه الظروف السياسية ليتركه مع ارتباكه الثقافي الذي ظل معه قائماً لعدم الاستقرار وغياب القيادة الرشيدة، ولهذا عاد إلى الفوضى الذي ظل فيها لمجرد أن رفعت عنه الوصايا، إذن الأمور في نسقها الطبيعي إذا كان متحضراً وهو مستعمر أكثر من ما هو مستقل!! لم يستطع الحكم التركي أن يعيد صياغة المزاج السياسي الموروث، ولا أن يتركهم لحالهم بل على العكس من ذلك اشتدت المظالم الاجتماعية حتى لم يعد التحديث مقبولاً.. لهذا كان الطريق ممهداً أمام ثورة المهدي لتنطلق حوالي 1881م.. كانت دينية صرفة، ولكنها عالجت صميم الوقائع الحية للشعب السوداني، ولهذا لم تكن ثقافتها الدينية مطروحة للنقاش رغم ما فيها، وقد كانت تحمل إمكانية هائلة لتحديد مستقبل زاهر للسودان لولا أنها أصيبت في قائدها الذي مات في عمر السابع والثلاثين. بعد موته انبعثت الثقافة القبلية القديمة بأشد مما كانت قبل التركية، حتى أن الخليفة عبد الله نفسه انجرف معها عندما استعان بالبقارة أمام سطوة الإشراف الذين حذر منهم المهدي نفسه.. لم تدخل المهدية تجربة الدولة المنظمة، لأنها لم تكن مؤهلة ثقافياً ولم يتركها الآخرون، ولكنها رسمت مخططاً لمشروع ملك يحكم السودان لم يجد مخرجاً للتنفيذ. والأغرب بعد تسعين سنة جاء نظام (الإنقاذ) وكرر نفس الخطأ ليقع في نفس الحفرة !! *** موت المهدي لم يكن خسارة فقط على المدى القريب بل وعلى المدى البعيد أيضاً، في ثورته كانت قد سنحت فرصة تقديم نموذج لم يتكرر في تاريخ السودان الحديث، ربما لم يكن ممكناً في وجوده أن يلحق دعوته تلك الخرافات التي لحقت به أو حتى تلك (القبلية) التي كان قد استهجنها، أو ربما مع تقدم السن والتجربة كان يمكن أن يقدم تجربة نظيفة من الشوائب!. الأخطاء القاتلة التي ارتكبت بعد المهدي وكانت أبرزها معركة توشكي الخاسرة كانت قد قضت تماماً على المزاج التراثي والديني معاً، ولهذا انجرفت الأجيال مع تيار لم يكن الانجليز أنفسهم يدركون نتائجه. بهرتهم الانجازات المادية التي بدأت بسكك حديد السودان التي ظلت باقية حتى سنوات معدودة دون بديل مقنع، وقد رفعوا في إحدى المؤتمرات شعاراً عجيباً قدم دليلاً دامغاً على عجز الشعب السوداني في تقديم البديل وهذا الشعار كان يقول (لا بديل للسكة الحديد سوى السكة الجديد). هذه السكك الحديدية التي بناها كتشنر في سنوات معدودة من مارس 1896م حتى 1905م، لم يزد الشعب السوداني عليها في أكثر من ستين عاماً إلا كيلومترات طفيفة. مع السكك الحديدية انفتحت منافذ تجارة بحرية على أثرها ظهرت بورتسودان إلى الوجود، ثم بنت الإدارة الانجليزية مدارس لتدريب الموظفين ومشروع الجزيرة، ثم كان الاستقرار والأمن. هذا الانبهار دفع أجيالاً كاملة في عملية تماهي في الانجليز ومنهم خرجت فئة (الانجليز السود) وقد كانوا بالفعل أكفأ من قادة الإدارة المدنية بعد الاستقلال!. هذا الدور البريطاني تحسر عليه البعض بعد ذهاب الإنجليز !! وربما تناسى هؤلاء أن تحديث الحياة في سودان الحكم الثنائي لم يكن في أغلب دوافعه أخلاقية، بقدر ما أن الوضع القانوني كان ضعيفاً لبريطانيا.. كان وضعها في الشراكة الاستعمارية أشبه بوضع الأمريكان في غزو عراق صدام حسين.. كانت محرجة أمام الدول الأوربية والوصاية العثمانية وكانت في حاجة ماسة لذريعة كانت أبرزها تحديث مجتمع متخلف، لكن ما أن بدأ العقد الثالث انقلب السحر على الساحر.. كنتيجة طبيعية لعمليات التحديث واندلاع الثورة المصرية في عام 1922م، استيقظ الحس الوطني في السودان ولأول مرة انطلقت حركات وطنية حديثة.. وانعكست تلك اليقظة على شكل معارضة سياسية وتمرد عسكري عرفت بثورة اللواء الأبيض. هذه اليقظة قادتها فئة الخريجين من المدارس البريطانية التي أسست لتدعيم الخدمة المدنية.. في هذه المرحلة الحرجة تم اغتيال السير لي أستاك حاكم عام السودان على يد مصري في شوارع القاهرة، على أثر هذا الحادث تم طرد المصريين من السودان، وأبيدت الوحدة السودانية المتمردة. كان الاستقلال الطبيعي والحقيقي يجب أن يحدث في العشرينيات، ولكن المشكلة كانت على شكل أزمة ثقافية ولم تكن قضية إرادة وطنية.. الإرادة الوطنية للاستقلال كانت أقوى مما لدى الشعب المصري، ولكن الضعف الثقافي الفكري، وهو الذي أدى إلى القضاء على هذه الإرادة التاريخية، فالأخطاء الجسيمة للثورة المهدية في أواخر أيامها، أدت إلى القضاء المبرم للإرادة الوطنية.. غياب هذه الوطنية هو سبب ضعف المقاومة التي تم بعد ستين عاماً ولم يأت الاستقلال إلا ثمرة صراع بين الدولتين المستعمرتين، الإرادة الوطنية لم تعمل إلا لاستثمار هذه الخلافات التي بدأت منذ معاهدة 1936م ومحادثات صدقي مع بيفن بعد الحرب العالمية الثانية. نواصل في الحلقة القادمة سلسلة إخفاقات حكومات ما بعد الاستقلال. وكيف عاد السودان مرة أخرى إلى حضن وصايا دولية محبوكة بأكثر من ثلاثين قراراً من الأممالمتحدة ومجلس الأمن.