لا ريب أن الوقت قيمة ثمينة، وتلك حقيقة معلومة ويدركها القاصي والداني، وتحدثوا عنها في دور العلم وفي كافة المنابر والمنتديات.. وأخيراً بدت مؤسسات الدولة اهتماماً كبيراً وبالتحديد خلال السنوات العشر الأخيرة باقامة ونشر الدورات التدريبية المكثفة في إدارة الوقت، إلا أن المحصلة كانت صفراً كبيراً ..حيث لم يتم رصد وتطور إيجابي أو تحسن في مايلي تعظيم قيمة الوقت، باعتباره شعيرة.. فالعمل عبادة لا شك في ذلك، والإنسان مخلوق من أجل ذلك، ولا تزال اجتماعات كثيرة تنعقد وتنفض ولا يخلو مرفق من المرافق من الاجتماعات صغر أم كبر، حيث أصبحت الاجتماعات تشكل وصمة في جبين الخدمة المدنية، تلك الاجتماعات) المصطنعة والهايفة (جلها هي السبب الأساسي في تبديد وقت الدولة والمواطن معاً، وأصبحت الاجتماعات شماعة يعلق عليها غياب المسؤول غياب الموظف عن موقعة نظراً لأن المعاملة الواحدة في دواوين الدولة ومكاتبها وملحقاتها حلقة من الحلقات التي تمر، أو بالأصح لا تكتمل في حالة تأخر أو غياب واحدة من تلك الحلقات، وعلى رأس أسباب الغياب أو بالأصح التسيب ظاهرة أو خرافة الاجتماعات، ويلحظ المراقب والمتابع والمواطن المكتوي بنار سلحفائية الاداء في الخدمة المدنية بأن أوقات بداية الاجتماعات الحقيقية وليس الوهمي بالطبع- التي ترد على السنة مدراء المكاتب والسكرتارية -حيث أن بداية الاجتماعات الحقيقية معلومة إلا أن نهايتها مجهولة ! وأذكر في هذه المناسبة عندما كنت أعمل مراسل لصحيفة الأضواء بود مدني وقبل حوالي عشرة أعوام رشحت أنباء عن حدوث تسمم لبعض تلاميذ المدارس بعدد من قرى ولاية الكاملين، تزامنت معها ظاهرة نفوق ومرض للطيور والحيوانات في ذات المنطقة، ولاجراء تحقيق استقتصائي سافرت للكاملين والتقيت ببعض مواطني القرى المعنية، ومن ثم توجهت الى مستشفى الكاملين لزيارة المصابين والاستماع الى أولياء أمور التلاميذ المصابين وإدارة المستشفى، ومن بعد ذلك توجهت الى مكتب معتمد الكاملين حوالي الواحدة ظهراً، وعلمت من مدير مكتبه أن المعتمد في اجتماع بدأ قبل قليل وانتظرت أكثر من ثلاث ساعات دون جدوى، وعدت أدراجي وواصلت التحقيق الى الصحيفة، وبررت لنفسي إغفال إفادة المعتمد باعتباره ممثل حكومة الولاية، وكتبت ما معناه بأني قد وجدت المعتمد في اجتماع بدأ في وقت وصولي، وانتظرت لأكثر من ثلاث ساعات عسى أن يخرج من الاجتماع وأضفت قائلاً : بأن بداية الاجتماعات في هذا البلد معلومة على الأقل بتوقيت معلوم ولكنه أشبه بأسعار التأشيرية للسلع والخدمات بالأسواق، إلا أن نهاية الاجتماعات مجهولة !! ولا يعلمها رئيس الاجتماع نفسه سواء أكان وزيراً أو رئيس مجلس إدارة أو مديراً عاماً، أو أدنى درجة من ذلك على المستويات الأخرى، ولست أدري الى متى تظل فوضى الاجتماعت التي تعطل دولاب العمل، وكثيراً ما تكون موضوعات الاجتماع المعني لا تحتاج لأكثر من ساعة واحدة إلا أنها تمتد لساعات طوال تستنزف وقت الدولة والمواطن!! وأذكر في هذه المناسبة أيضاً عندما كنت أعمل موظفاً في رئاسة إحدى المؤسسات العامة بالخرطوم، وكان ذلك في مطلع التسعينيات وقتها تم تعيين مديراً عاماً جديداً وهو من الخبراء والكفاءات التي عادت للعمل في البلاد، وأن أول قرار اتخذه المدير العام الجديد هو تحديد وقت للاجتماعات، وكان من ثمار هذا القرار الإيجابي أن الاجتماع الشهري لمناديب المؤسسة لمواقع العمل خارج العاصمة القومية، ويضم الاجتماع كل الإدارات وخلال الاجتماع يتم الاستماع الى التقارير الشهرية للمناديب ولكافة الإدارات بالرئاسة والتداول حولها، والوقوف على المشكلات والمعوقات ووضع الحلول لها بتحديد ساعتين فقط من العاشرة صباحاً وحتى الثانية عشرة ظهراً، لمثل هذا الاجتماع الشهري الحاشد للموضوعات المهمة، والذي كان قبل التحديد يستغرق أكثر من خمس ساعات !!! من خلال ترددنا على مكاتب الدولة ولسنوات طويلة متصلة لاحظنا تكرار الوجوه التي تأتي لطلب خدمة ما أو معاملة، وتصطدم بالإجابة التي تلوكها ألسنة السكرتيرات (فلان في اجتماع) وهي إجابة كافية لأن يغادر طالب الخدمة أو صاحب الغرض أو المهمة أو الرسالة يغادر المكتب المعني ليعود ثانيةً ورابعة واكثر من ذلك، في أيام متتالية أو متباعدة ليصطدم بنفس الإجابة الممجوجة.. الغريب في الأمر أن آفة الاجتماعات آصبحت تعطل دولاب العمل حتى في المستويات الأدنى من وظيفة المدير العام ومديري الإدارات دون أن يلتفت الى ذلك الوزراء أو المدراء، ربما لا يدر هؤلاء أن الاجتماعات هي أكبر معوق للاداء في الخدمة المدنية لأن الاجتماعات مفتوحة بلا سقف أو قيد زمني!! نحن بالطبع لا ندعو لالغاء الاجتماعات فهي جزء أصيل من العمل لأهميتها وضروريتها في متابعة الآداء بأخذ الآراء وتبادل الخبرات، للخروج بالتوصيات والقرارات الصائبة، لتجويد الآداء وإعطاء كل ذي حق حقه من أصحاب المشكلات التي تحتاج الى إعمال الشورى.. ولكن هذا لا يعني أن تكون اجتماعات وهمية أو هي تستأثر لمعظم الوقت، ونريد أن تكون الاجتماعات هي الاستثناء والقاعدة هي بقاء المسؤولين أو الموظفين الآخرين في مكاتبهم ومواقعهم، ولكن لابد من قطع وقت الاجتماعات وتحديده بشكل أكثر دقة بداية ونهاية، وأن يكون ذلك معلوماً للعاملين في الجهة المعنية وللمواطنين طالبي الخدمة، وذلك بوضع (لافتة أمام باب المسؤول، وكذلك الموظف المعني توضح أن المسؤول أو الموظف في اجتماع من وقت كذا الى كذا، مثلاً من العاشرة الى الحادية عشرة) حتى يستطيع المواطن طالب الخدمة أو التكليف البقاء أو الانصراف ( والعودة بعد نهاية الاجتماع ليستفيد من وقته في أمر آخر، ولكن أن تُترك الاجتماعات كما هو حادث الآن دون ضبط أو تحديد لتستنزف عدة ساعات من وقت الدولة، وتعطيل مصالح المواطنين لتصبح الخسارة مركبة ومضاعفة، لأن معظم الاجتماعات إذا اتسمت بالانضباط والجودة والإعداد وتقدير قيمة الوقت لحققت نتائج إيجابية في وقت وجيز، وتحسن الاداء في الخدمة العامة.. ولعل الشيء بالشيء يذكر فقد أورد الزبير أحمد الحسن وزير الطاقة والتعدين الأسبق لدى تقديمه كتاب (معالم الإصلاح والارتقاء في الهيئة القومية للكهرباء 1993-2009م لمؤلفه المهندس مكاوي محمد عوض مدير عام الهيئة القومية للكهرباء السابق ووزير النقل والطرق والجسور الحالي، ذكر الزبير أحمد الحسن قائلاً إنه إبان تقلده منصب وزير المالية والاقتصاد كان المهندس مكاوي يأتيه في مكتبه بالمالية ويقول له لن آخذ من وقتك غير دقيقتين فقط، يقول خلالها كلمات قليلة ويذهب ويتركني جل وقتي مشغولاً بها . لله درك مهندس مكاوي، فسرُ نجاحك يكمن في تقديسكم للوقت، نستطيع أن نجد المئات الذين يستوزرون بالأصالة أو المحاصصة، ولكن من الصعوبة أن نجد من يشغل وظيفة المدير العام بحقها من أمثال المهندس مكاوي الذي خسرته الخدمة المدنية .