مرّ عامان على رحيل أستاذنا الصحفي حيدر طه عبد اللطيف- حيدر النّاصري- الذي كان له في خدمة الشعب عرق.. كان ملاكاً في هيئة إنسان.. إنساناً مثابراً نادر المثال، حفّزَ فينا أمل الغد الرحيب، وحبّب إلينا إرادة التغيير. عاش بين الناس مثل نفحة عطر، ورحل.. اليوم ذكرى رحيله، ويا لها من ذكرى تزيح اثقالاً من الأحزان.. قبل عامين تلاقى أحبابه وعارفو فضله، فامتلأ المكان بالصدى، صدى ذكريات الفقيد معهم في دروب الحياة المتعرّجة، في ذلك اللقاء تبددت فكرة أن الموت هو النهاية، وانقلبت حالة الأسى الى إحتفاء بهيج بسيرة الرجل العطرة. الموت انتقال لحياة جديدة ومثل حيدر لا يموت، فهو من القلائل الذين يصدق فيهم كل طيب الثناء، وكل ما يمكن أن يقال في حقه من عبارات الشكر والعرفان، يُعد قليلاً ولا يرقى الى مستواه من دماثة الخلق وطيب المعشر ونقاء السريرة. ولد حيدر طه في نهاية الاربعينيات، وتخرّج عام 72 في جامعة الخرطوم، وكان حاضراً في كل الأحداث الوطنية، منذ أكتوبر 64 وحتى رحيله المفاجئ في غربته، التي انتهت به الى دولة الامارات العربية المتحدة. كان حيدر السياسي والصحفي، مثالاً لشجاعة الموقف وصدق التوجه ونكران الذات.. كان قلماً رصيناً يمارس السياسة والصحافة كطقس تعبّدي مقدس، بمحبة صادقة للمهنة وللآخر.. حيدر طه، إنسان خالٍ من النرجسية، يسبر غور القضايا الوطنية بتجرد، فلا تكاد تتلمس موقفه الحزبي، لكونه يغوص عميقاً في البحث عن الحلول، لا يشغله عن ذلك الهدف غير شاغل الهم الوطني. كان فرقاء السياسة يلتقون عند صخرته، فقد كان حكيماً واشتراكياً بالفطرة، لا اشتراكياً كتلك الاشتراكية التي تُقرأ في بطون الكتب، أو تلك التي تقال فوق المنابر، وإنما كان يجسد الفكرة ويحياها، وهكذا كان دأبه بين الناس... في ذكرى تأبين حيدر طه، قال أخوه الأكبر، إن تلاقي أحبابه للترحم عليه، كان بمثابة تكريم لكل إنسان (نظيف) في هذا البلد. في ذكرى هذا الرجل العظيم تُطرح تساؤلات عديدة، لعل مجالس السودانيين تتوقف عندها، فهي أسئلة لا مناص منها، لخصيصة الجاثمين فوق صدور الناس.. لماذا تلفُظ هذه البلاد الطيبة بنيها الأبرار، وترمي بهم بعيداً عن ترابها..؟ إلى متى تقسر هذه(الأوضاع) أبناء البلد الخيرين النابغين على المهاجر، فتتلقّفهم دول أخرى تستفيد من خبراتهم، بينما يحتاجهم هذا الوطن..؟ ماذا جنينا من مشروع التمكين الذي تسبب في غربة حيدر طه وأمثاله الذين لم تكن جريرتهم سوى أنهم أحبوا هذا البلد..؟! مثل كثيرين، غادر حيدر طه أرض الوطن، إثر فورة التمكين الاخوانية، فخلف من بعده خلف(أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات)، فهو حيدر طه الحائز على أعلى الأصوات في انتخابات نقابة الصحفيين السودانيين أيام الديمقراطية، وقد انتخب عضواً بالمكتب التنفيذي للنقابة حتى حل النقابة في الثلاثين من يونيو..كان الكادر الإعلامي المتميز المستنير، الورِع، الحصيف، الأريب الأديب، الذي لم يجترح كلمة أو لوماً في حق أحد.. كم كان أُستاذاً و معلِّماً لنا، ولهم أيضاً، في صمته وصدقه و صبره، واحتماله، وكم يتعذر علينا الآن، اصطياد أزاهيره..! رفد حيدر طه المكتبة السودانية بكتابين هما (الأخوان والعسكر)، وعندما يضحك التاريخ، الجيل الثاني .. وتراجيديا السياسة السودانية، وستصدر للفقيد العظيم كتب أخرى، على يد رفيقة دربه، الأستاذة الصحفية أماني لقمان. ألا رحم الله فقيد الصحافة والسياسة، الأستاذ حيدر طه، صاحب الابتسامة التي لا تنطفئ ..ربِّ اجعل نزله الفردوس الأعلى ..ربِّ اجعل غربته التي عاشها من أجل خلاص هذا الشعب، تاجاً فوق رأسه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.