عرضنا أمس الأول «الثلاثاء» كلمة زعيم حزب الأمة الصادق المهدي في الجلسة الافتتاحية لمنتدى الجزيرة للدراسات حول تقرير المصير في السودان، والذي شارك فيه عدد من أبرز الباحثين والدارسين العرب إلى جانب الإمام الصادق، وقد صُوبت مداخلة الإمام في تلك الجلسة الافتتاحية على الإجابة على أسئلة: ما الذي جاء بدعوة تقرير المصير وما الذي جاء بالانفصال المتوقع وما هي المآلات المترتبة على ذلك، وأجاب المهدي على تلك الأسئلة من خلال سرده الموثق للوقائع، وانتهى إلى تحميل النظام القائم والحزب الحاكم المسؤولية الأولى والكبرى في ما انتهى إليه أمر الجنوب من تقرير مصير وانفصال، كما ورد في تلك «الإضاءة» التي عرضنا فيها أبرز ما جاء في كلمته. لكن المساهمة الفكرية الأهم للمهدي في ذلك تمثلت في ورقته المُعنونة «رؤية إستراتيجية سودانية»، والتي قدَّم فيها تلخيصاً وافياً لمجمل اجتهاده المتصل بالتجديد والتحديث في مجال الفكر الإسلامي-أو ما يسميه هو بفكر الصحوة الإسلامية- مطبقاً على الواقع السوداني بخصائصه العينية، وفي هذا يرى المهدي أن الهدف الاستراتيجي للسودان هو بناء الوطن، الأمر الذي يُوجب التوفيق بين متطلبات التأجيل والتحديث، والتوفيق بين الوحدة والتنوع. معتبراً «قضية التأصيل» والمقصود هنا التأصيل بمختلف أبعاده، بمثابة «تعريف للذات» -أي الذاتية الإسلامية والعربية والأفريقية لغالبية الشعب السوداني- والتي رأى أنه لا يمكن «لعاقل أن يهملها» كما قال. على مستوى التأصيل الإسلامي، يستند المهدي إلى قول ابن القيِّم الجوزية بأن «المطلوب هو معرفة الواجب ومعرفة الواقع والمزاوجة بينهما، ويرى أن الثوابت العبادية والأخلاقية والشعائرية ملزمة لكل مسلم بموجب شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»، لينطلق من ثم للتفصيل فيما يتصل بالصعيد الحركي ونظم الحكم ويستعرض توجهات التيارات السياسية من «طالبانية» تستخف بمستلزمات العصر وتلتمس أسلمة خارج التاريخ -أي ماضوية بلغة الحداثيين- ومن «تيار تركي» علماني، وتيار «إيراني» اتكأ على «ولاية الفقيه» وانكفأ عليها. وانتقل المهدي من ثم للحديث عن التدين في السودان، ورأى أن للدين دوراً تأصيلياً مهماً حتى في الجنوب الذي يظنه البعض خلاءً دينياً، فالكنيسة في الجنوب هي أقوى تنظيم مدني، كما أنه لا زال للأديان الأفريقية -كريم المعتقدات- مكانة حتى في الدستور الجنوبي، الذي ينص على أن مصدري التشريع هما الإجماع والعرف، والعرف هناك مصدره تلك العقائد الدينية الأفريقية. أما على مستوى السودان الشمالي فإن «التأصيل الإسلامي» عند المهدي يتمثل في الدعوة لدولة مدنية ديمقراطية تحقق المساواة بين المواطنين مع الدعوة «لمرجعية إسلامية» وهذا يعني: تماهي المبادئ الكلية في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة والسلام مع مبادئ الإسلام، وتخصيص «التشريعات ذات المحتوى الديني» لجماعاتها -أي للمسلمين- دون سواهم. كما يؤكد في الوقت ذاته على ضرورة صدور أي تشريع-غض النظر عن محتواه- عبر آلية تشريعية منتخبة، بحيث يخضع للنقاش والتمحيص من خلال تلك المؤسسات والهيئات التي خضعت للاختيار الحر من جانب الشعب. كما يحق للشعب المسلم معارضة أية تشريعات تتعارض مع نصوص الشريعة، ولكن بالوسائل الديمقراطية. كما يرى في الوقت ذاته عدم جواز إصدار أية تشريعات تنتقص من الحريات الدينية، التي هي من ثوابت النظم الديمقراطية، كما أن حرية الرأي لا تعني عنده حرية الإساءة للمقدسات، لأنها تمس -بالضرورة- مبدأ «الحريات الدينية» وتتجاوز حرية الآخرين واختيارهم، وتطعن بذلك في المبدأ الديمقراطي الأساسي «الحرية لنا ولسوانا»، كما أسس المهدي لتعريف أهل الإيمان بثلاثة: التوحيد لله، الإيمان بالنبوة وبالميعاد، فمن آمن بها وعمل صالحاً حصل على «جواز المرور الإسلامي» على حد تعبيره. وأوضح أيضاً مقاصد «الشريعة» في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، وأن أية أحكام تتعارض مع هذه المقاصد تصبح باطلة. أما بالنسبة «للعروبة» فيرى فيها المهدي رابطة ثقافية -لغوية- اجتماعية، تصهر الناطقين بالعربية في إطار حضاري مرجعيته مقولة النبي (ص): «من تكلم العربية فهو عربي»، وينبغي أن يعترف أهلها بوجود ثقافات وإثنيات أخرى يجب التعامل معها على أساس التعايش والتسامح والاحترام، منعاً للإكراه. كما نادى بتحرير «العروبة» من التعريف العنصري والعصبية وجعلها حلقة في منظومة التضامن الإقليمي لمصلحة شعوبها. كما ذهب إلى أن «التأصيل الأفريقاني» يقوم على أساس «الجيوسياسي» -أي الجغرافيا السياسية- الخالي من التعصب الإثني، ويخاطب الروابط التاريخية لشعوب القارة وقضاياها الحياتية والمظالم المعاصرة التي تجمعها مع شعوب عالم الجنوب. وفي ما يتصل «بالتحديث» يقول المهدي بأنه يقوم على أساس «هجرة فكرية» نحو الحضارة الغربية، تستصحب وتستفيد من إنجازاتها في مجالات الحرية السياسية والاقتصادية وحرية البحث العلمي، والدخول معها في عملية «تبادل حضاري» بين منجزاتها الحداثية وموروثاتنا الروحية والأخلاقية والبيئية. وبناءاً على كل ذلك طالب المهدي بأن يستفيد السودان من كافة تجاربه الماضية والحاضرة للتراضي على كتابة دستور جديد، دستور لا يعبر عن إرادة حزب أو مجموعة أحزاب، بل عن إرادة الشعب، ومن خلال مؤتمر قومي دستوري جامع. ورأى أن مثل هذا النهج كفيل بالتأسيس لوحدة متينة في دولة الشمال، ويضع أسساً مستنيرة يُرجى أن تتجاوب معها دولة الجنوب مستقبلاً. خصوصاً وأن العلاقة بين دولة الشمال والجنوب قابلة للانزلاق في معادلة «عدائية صفرية» مؤذية للطرفين. وحذر المهدي من ثم من الآثار والمخاطر المترتبة على مثل هذا الانزلاق على المستوى المحلي والإقليمي، ما يفتح المنطقة للتدخلات الأجنبية والمطامع والمخططات الإسرائيلية على وجه الخصوص.