أفسدت الأحداث التي تشهدها مصر هذه الأيام على العديد من السودانيين والذين غادروا البلاد في رحلات مختلفة منها الاستشفاء والاستجمام، بينما كانت هناك مجموعة منهم تقوم بأعمالها التجارية بين القاهرة والخرطوم، وجاءت رياح المطالبة بالتغيير التي قادها الشباب المصري بمختلف فئاته، وأربكت حركة البلاد والتي لم تشهدها من قبل لدرجة أن متاجر القاهرة ومحالها المختلفة بدأت تغلق أبوابها عند الواحدة ظهراً استجابة لقرار حظر التجوال المعلن من الثالثة عصراً. وتتوقف الحياة في القاهرة في ظل الأحداث الحالية خوفاً من الخراب والدمار الذي قد يطالها من قبل قلة من المتظاهرين والذين بدأوا تدمير عدد من المؤسسات بصورة هستيرية، فرحين بنجاح ثورتهم التي خشيّ الكثيرون وأدها في بداياتها، لكن ذلك لم يحدث إلى الآن، حيث بدأ سقف مطالب الشباب في العلو يوماً بعد الآخر. وفي خضم تلك الأحداث تظل أوضاع المواطنين السودانيين بمصر بمختلف مدنها، الأفضل على مستوى الأجانب، حيث لا يعتبر المصريون السودانيين أجانب، بل هم في بلدهم كما يقولون، ويمكن القول بأن السودانيين يتمتعون بحقوق أقرب لحقوق المصريين في ظل الروابط التي تجمع بين الشعبين، وعند مرور أي سوداني في الشوارع المصرية أثناء فترة حظر التجوال، لا يعترضهم الجيش المصري المنتشر في كافة شوارع القاهرة الكبرى أو اللجان الشعبية التي شكلها الأهالي لحماية ممتلكاتهم، وكل ما يتم هو مخاطبة المصريين لأخوتهم السودانيين بأن ادعوا لنا لتزول هذه الغمة عنا.. أو يقولون لهم «شدة وتزول يا أبناء النيل»، إذ إن هناك درجة من الاحترام والحب المتبادل بين الطرفين والذي يتضح من خلال الارتباط الوثيق بين الجانبين وتسامرهم في القهاوي المنتشرة في كافة أصقاع أم الدنيا، حيث لا يميزهم عن بعض سوى البشرة السمراء التي نتمتع بها عنهم. ولم يشعر عدد كبير من السودانيين الذين زاروا مصر من قبل بالهلع والخوف جراء الأحداث التي بدأت تتطور يوماً بعد الآخر، وأكثر ما أقلقهم انقطاع خدمات الاتصالات والانترنت للتواصل مع ذويهم وطمأنتهم على أوضاعهم وأنهم بخير، ولا يعانون من أي مشكلات أو يتعرضوا لأذى جراء الأحداث، غير أن هناك أعداداً من السودانيين الذين يزورون مصر لأول مرة في حياتهم، بدأوا يشعرون بالقلق والفزع من أن تسوء الأوضاع ويتعرضوا للخطر وهو ما لم يحدث أبداً جراء بث السودانيين الموجودين هناك والذين ترددوا على القاهرة كثيراً، التطمينات في نفوسهم وجعلهم يتأكدون بأن أذى لن يصيبهم.. وبدأوا في التأقلم على الأوضاع. ودرجة الترابط الكبير بين الشعبين جعلتني أمازح زميليّ في الرحلة الأخوين طارق خليفة وعصام إبراهيم بأن نحمل «نبابيتنا» وننزل مع الإخوة في اللجان الشعبية لحماية أنفسنا وممتلكاتنا من البلطجية، وهو ما جعلهم «يضحكون» على دعوتي ويؤكدون لي أن الأوضاع هادئة ولا تحتاج لتدخل منا إلا إذا اضطررنا لذلك.. وتبادلنا الضحك سوياً. وأكثر ما أفرحني بصفة خاصة خلال رحلتي هذه، وجود الجنيه السوداني كعملة محترمة في جميع الصرافات المصرية، ويتم التعامل معه كالعملات الكبيرة في البيع والشراء وهو ما لم يكن يحدث سابقاً، ويتمتع الجنيه بقبول كبير في الصرافات للدرجة التي جعلتني أطلب من موظف الصرافة تحويل نقودي المصرية لجنيه سوداني بدلاً عن الدولار، وذلك قبل يوم من عودتي لأرض الوطن وهو ما جعلني أشعر بفرحة عارمة أن أجد عملة بلادي تزين جيد الصرافات المنتشرة في وسط البلد بالقاهرة، وزادت سعادتي عندما رأيت مواطناً مصرياً يحمل العملة السودانية مع اليورو والدولار والريال السعودي ويعمل على تغييرها لجنيه مصري في ذات الصرافة التي كنت بها، وعندها «همهمت» داخل نفسي بأن الجنيه السوداني أعاد لنا جزءاً من هيبتنا التي كادت تضيع في أعقاب بيع ناقلنا الوطني سودانير لمستثمر أجنبي لم يضف إليه شيئاً، بل أصبح خصماً عليه مما جعل معظم السودانيين الذين يغادرون البلاد يتوجهون لخطوط طيران أخرى، وعموماً هذا أمر سنفرد له حلقة كاملة خلال هذه المساحة.. والفرحة التي أدخلها وجود جنيهنا السوداني بالصرافات، أفسدها عدم التعامل من قبل طاقم سفارتنا بالقاهرة وعدم تفاعلها مع الأحداث مثلها مثل نظيراتها في أم الدنيا، حيث قامت جميع السفارات والقنصليات بوضع أرقام هواتفها على الفضائيات المختلفة لإغاثة رعاياها بمصر، وهو ما لم تفعله سفارتنا من خلال تجوالنا على الفضائيات المختلفة، ولم أرَ أرقام هواتف لبعثتنا هناك إلا عندما أدرت مؤشر الريموت صوب فضائيتنا السودانية وأنا على أرض الوطن. وهناك حالة من الاستياء وسط السودانيين بالقاهرة من ردة فعل طاقم السفارة رغم قناعتهم بأن الفريق عبد الرحمن سر الختم سفيرنا هناك، رجل كريم ويحمل كافة صفات أولاد البلد الأصلاء، إلا يبدو أنه يستمع لطاقمه المعاون دون التحري بنفسه عما يجري لرعاياه هناك. وأكثر ما أحبطني حديث مدير مكتبه هيثم المأمون والذي تحدثتُ معه وأنا في مطار القاهرة عن أوضاع السودانيين بالمطار، والذين ظلوا عالقين لأكثر من يومين دون أن يصلهم فرد من السفارة، وظل يصر على وجود طاقم منهم بالمطار لمتابعة أوضاع السودانيين هناك.. وعندما تحدثت معه باعتباري صحفياً وسأنقل الأحداث، رد عليّ بأنكم تعلمون بأننا كسفارة لا نملك إمكانات مثل السعودية وقطر لتأجير طائرات لنقل رعايانا، رغم أن جميع المواطنين يحملون تذاكر سفر على مصر للطيران وعدد من الخطوط الأخرى، فقط يحتاجون لمن يساندهم هناك. عموماً يحتاج سفيرنا بالقاهرة عبد الرحمن سر الختم لإعادة النظر في معاونيه حتى لا ينكشف ظهره إذا ساءت الأوضاع بمصر. وخلفت الأحداث التي بدأت في مصر منذ الخامس والعشرين من يناير، خسائر كبيرة على الاقتصاد المصري قطعاً سيتحمل وزرها ذات الشباب الذي خرج في التظاهرة وكافة الشعب المصري والذي سيعاني كثيراً حتى تعود مصر لسيرتها الأولى وتتمكن من الصمود وإعادة هيبتها الاقتصادية خاصة في ظل أزمة الغلاء الطاحن التي ضربت العالم، إذ تستهلك مصر مقدار ما تستهلكله دول الاتحاد الأوربي مجتمعة من القمح، فهي تستهلك ما قيمته «5» مليارات دولار سنوياً.