سألني أحد الشبان لماذا لم ينفعل الإعلام السوداني بثورة الشباب في تونس ومصر.. قلت له إن العالم ذهب وأندهش لذلك، ولم تستحضر ذاكرته الثورات السابقة للشعب السوداني في اكتوبر 64، وفي أبريل 85.. شعب السودان شعب ثورات حيث ثار من قبل بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي وانتصر.. وثار كذلك في العام 1924 بقيادة الشباب آنذاك ورغم محاولات الكبح التي مارسها المستعمر إلا أن جذوتها لم تنطفئ، وظلت متقدة حتى قيام مؤتمر الخريجين عام 1938م، والذي قاد ثورة الاستنارة والمطالبة برحيل الاستعمار إلى أن تحقق استقلال السودان عام 1956.. إذن الثورة عبارة عن قناعات تتفاعل وتشتعل وتبلغ الذروة عندما تستوي الأمور كلها، ونحن غير مندهشين لما جرى ويجري، لأن شعوب تونس ومصر بلغت درجة النضج وخرجت للشارع ونحن عندما تكتمل وتتشكل قناعاتنا لا نحتاج إلى تحريض أو دعوات من أي نوع كانت للخروج والثورة.. الشعب السوداني خرج صبيحة الثلاثين من يونيو عام 1989 مؤيداً ثورة الإنقاذ الوطني التي ما جاءت إلا بعد أن بلغت قناعات الشعب بضرورة التغيير من ذلك الوضع المتردي، الذي بلغته ظروف الحياة من نقص في الأمن وأسباب المعيشة، حيث فشل النظام الحزبي التقليدي في توفير احتياجات المواطن الأساسية، وفشل في تأمين البلاد من مهددات التمرد والنهب المسلح، الذي بلغ عمق العاصمة وصال وجال رجال الاستخبارات الأجنبية داخل مؤسساتنا السيادية، وبلغ التمرد بقواته عمق ولاية النيل الأزرق بعد احتلال الكرمك وقيسان، ناهيك عن الجبهات القتالية الأخرى.. وعندما أعلن قادة الجبهة الإسلامية وعضويتها في الجمعية التأسيسية التبرع بسياراتهم الفاخرة للقوات المسلحة التي كانت تفتقر لأبسط مقومات الجندية(الحذاء والرداء)، سخرت بعض قيادات الأحزاب التقليدية من موقفهم قائلين: وماذا يفعل الجيش بسياراتكم الفارهة هذه!؟ غير مدركين القيمة المادية للسيارات بعد بيعها والمعنوية للقوات المسلحة التي كانت في أمس الحاجة إلى الجرعة المعنوية التي تؤكد لهم أن الشعب يقف إلى جانبهم، مما يرفع من روحهم المعنوية أمام قوات مدعومة ومدفوعة من الخارج.. واذكر جيداً تلك العناصر التي كانت تشكك في قدرات القوات المسلحة وبياناتها، واذكر ذلك العنوان الذي صدر على صدر إحدى الصحف وهو يحمل عقب بيان للقوات المسلحة عبارة (إن كان ذلك صحيحاً!؟) والقوات المسلحة لا تصدر بيانات كاذبة ولا تعلن عن تحركاتها وخططها وهي في حالة حرب كما يعلم الجميع ذلك. ويجدر بي وأنا بصدد بعض المراجعات لأحوال بلادنا قبل إندلاع ثورة الإنقاذ الوطني تلك الفيضانات التي غطت جميع أنحاء عاصمة البلاد، فتوقفت سبل الحياة تماماً لما يزيد عن الأسبوع عام 1988، انقطع التيار الكهربائي والهاتف، وتوقفت المخابز والمواصلات، فشُلت الحياة كلها دون أن تتمكن الحكومة في ذلك من عمل شيء، فوقفت تتفرج على حال الناس.. تلك الأحوال التي كانت مائلة في أصلها حيث صفوف البنزين وإهدار معظم ساعات النهار وكل الليل وصفوف الخبز والغاز.. وظلمة الليل والنهار بفضل انقطاع التيار الكهربائي تلك هي الظروف التي دفعت لثورة الشعب السوداني في ذلك الوقت حيث كانت الندرة والانعدام.. والحال شتان اليوم حيث الوفرة( مع الغلاء) وهو داء عالمي ابتداء من امريكا سيدة العالم وانتهاء بأصغر دولة.. ونحمد الله كثيراً أن الغلاء عندنا ليس فاحشاً والسلع متوفرة.. وإذا بذلت السلطات المحلية جهوداً بسيطة في محيط سلطاتها ومسئولياتها يمكن السيطرة على الأسعار التي تبدو مبالغاً فيها من قبل التجار، وتعدد الأيدي التي تتداولها وتحقق منها أرباحاً فاحشة.. وهذا أمر يمكن السيطرة عليه طالما أن السلع نفسها متوفرة وهو دور ينبغي أن تقوم به الأجهزة والمواطنون أنفسهم، كذلك هناك حرية تعبير وحرية صحافة ودستور يحدد ذلك، وقوانين تفصل أسس تلك الحريات وحدودها.. وهناك دعوة بصوت مرتفع وعلى مسمع العالم بأن يجتمع أهل السودان جميعاً لصياغة أسس الدولة السودانية بعد إنفصال الجنوب، دعوة هادفة لكل الفعاليات السياسية للعمل معاً على إدارة المرحلة الجديدة، وصياغة دستور دائم يرسم معالم الطريق لتأكيد الديمقراطية، ولتحقيق العدالة والتنمية والحرية في ظل تداول سلمي للسلطة والثروة.. مما يؤكد أننا إذا سلكنا هذا الطريق فإننا سوف نحقق إنجازاً كبيراً وأساساً متيناً للاستقرار والتنمية والحياة الحرة الكريمة لأبناء شعبنا حاضراً ومستقبلاً.. إذاً إذا كانت الأيادي ممدودة بيضاء تنادي أبناء السودان للمشاركة في بناء الأوطان.. فإن الذي يرفض ولا يريد إلا أن يمضي برؤيته فقط فهو الخاسر الأكبر، لأنه بذلك يكون قد خالف ناموس السياسة وقواعد اللعبة، ولن يجد الذي يقف لجانبه في صفوف المتخلفين ولن يرحمه التاريخ ولن يتبعه عاقل من أهل السودان.