كانت لندن في ذاك الزمان أقل اكتظاظاً بالبشر، وعدد السودانيين من دبلوماسيين ومبعوثين ومقيمين لا يتجاوز الخمسين.. وأشهر المقيمين عصرئذ عثمان سفارة بلندن، ومنسي بليفربول، وكلاهما من الدناقلة والدناقلة سبقوا أهل السودان في اكتشاف مزايا الهجرة والأبواب الأوسع التي تفتحها للمهاجر.. كانت الحياة بلندن رخية والعالم كله يرفل في أثواب الأمان والسلام، لم تعرف الدنيا يومئذ الإرهاب ولا تفجر القطارات والحصون، وكان البريطانيون أقرب أهل الأرض إلينا.. يفسحون لنا في بلادهم ويميزوننا عن بقية الشعوب ويدخلون أطباءنا للعمل في مستشفياتهم بلا معاينات ولا إمتحانات ولا لجان، كان العالم متوازن القوى، والحرب الباردة في أوجها، وكوبا الشيوعية تنعم بالأمان على مرمى حجر من أمريكا. كنت قد فرغت من دراساتي العليا بجامعة لندن والتحقت محرراً صحفياً بشارع الصحافة (فليت استريت) ريثما أكمل الدكتوراة وأعود للبلاد.. وأذكر أن الذين كانوا معنا في الصحافة يومها الناقد عبد القدوس الخاتم، ومحمد عبد الجواد، وعثمان النصيري، وعثمان ميرغني،(وهو غير عثمان ميرغني رئيس صحيفة التيار) وحسين عثمان منصور، وأبو رأس، وفي الإذاعة البريطانية محمد خير البدوي، وإسماعيل طه، وأيوب صديق وفي التلفزيون البريطاني زينب البدوي. وإن أنسى لا أنسى فضل الدكتور علي الطاهر بروفيسور الفيزياء الحالي بجامعة الخرطوم، الذي نذر الوقت والنفس للعمل الإسلامي الطوعي، وكان يجاورني في الحي الذي كنت أسكن فيه بشرق لندن، وكان دائم التسفار خارج بريطانيا للاتصال بالجماعات الإسلامية الخيرية لجمع المال للعمل الإسلامي الإنساني، وكنت اشفق عليه وأنصحه باستقطاع وقت لدراسته، وقد كان يحضر لدرجة الدكتوراة في الفيزياء.. ولعلي الطاهر يرجع الفضل في السماح للمسلمين بانشاء المدارس لأبنائهم بلندن إسوة باليهود والجنسيات الأخرى، وله يرجع الفضل في إنشاء المركز الإسلامي بلندن، ويرجع الفضل في إنشاء أولى داخليات للطالبات المسلمات.. وقد برز اتجاه من الجاليات المسلمة من ماليزيين وباكستانيين وعرب وأفارقة ترشيحه ممثلاً لهم بمجلس العموم، إلا أنه اعتذر لي بحجة أن من حق الجهة التي ابتعثته أن يعود للعمل معها، هل يعرف الإسلاميون وهم يتولون السلطة اليوم هذا الأستاذ الفذ الذي هو بمثابة ثروة من ثروات بلادنا؟. صلاة الأعياد في باحة المركز الإسلامي غرب لندن.. ومجموعة حينا (البتون) بشرق لندن تضم علي الطاهر، وخالنا المهندس التجاني أحمد الضو، وصديقنا المهندس حسين ذلكم المحسي المسكون بحب السودان.. رجل باهر الصفات والسجايا.. تحركنا بعربتي صوب باحة المركز الإسلامي غربي لندن لصلاة العيد وسط جموع من المسلمين من أركان الدنيا الأربعة، وبعد التبريكات التي تعقب الصلاة توجهنا إلى المسلخ الباكستاني لاستلام خراف الضحية بعد ذبحها على الطريقة الإسلامية.. ولا أدري كيف كانت تكون حياة المسلمين ببريطانيا إن لم تكن هنالك جالية باكستانية، فللباكستانيين أسواقهم الخاصة ومذابحهم ومخابزهم وأماكن صلواتهم، وهم الذين يطبعون ويوزعون امساكيات رمضان ويوفرون حاجيات رمضان.. يعيشون في لندن كأنهم في إسلام أباد، ولا يختلطون مع الانجليز والأجناس الأخرى في الأسواق والمطاعم والمقاهي، ويحافظون على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم. نخرج ونحن قلة من منازلنا في زيارات نبدأها ببيت السودان بحي (رتلاند قيت)، حيث يتجمع بعد الصلاة جمع من السودانيين بجانب موظفي السفارة والملحقية الطلابية، وأذكر منهم الأستاذ الجليل إبراهيم نور، الملحق الثقافي، وعبد القدوس الخاتم، ووليام بيور، ومن أعلام بلادنا السامقة التي نحرص على زيارتها في منازلها الزعيم السياسي الكبير الشريف حسين الهندي، ومن أهل الثقافة والأدب آنذاك الطيب صالح، وحسين عثمان منصور ومنزله بحي (رتلاند قيت) قريباً من بيت السودان.. وهناك التشكيلي الكبير إبراهيم الصلحي، والتشكيلي الكبير عثمان وقيع لله، والإذاعي الكبير محمد خير البدوي، والسياسي الصحفي الكبير محمد عبد الجواد. وهكذا ينقضي العيد وتعود حياة المهاجرين إلى رتابتها في خضم الحنين إلى الوطن.. وما كان الناس ببلادنا يعرفون في ذاك الزمان دروب الهجرة، إذ كان الخروج من السودان فرض كفاية، لا يخرج الناس في جحافل مثلما يحدث اليوم.. عدت قبل عامين للندن وشاركت في ندوة فنية حضرها زهاء ال 400 من الأطباء السودانيين، وأقدر عدد السودانيين اليوم ببريطانيا بميلون شخص. وقد كتب صديقنا الشاعر الكبير الدكتور الزين عمارة قصيدة باهرة صور فيها عزوف السودانيين عن الحياة ببريطانيا في تلك الفترة. (ودع همومك إذ تودع لندنا... وأرجع إلى السودان وطناً آمناً. وأترك على أرض المطار بطاقة أكتب عليها بئس مأوانا هنا) والقصيدة طويلة يصور فيها الزين معاناة المهاجر في التكيف مع ثقافة جديدة علي، وقد هاجر الزين هجرة طويلة بدولة الإمارات وصنع مجداً علمياً فريداً، وتفوق أيما تفوق والفضل يعود إليه في إنشاء صروح الطب النفسي هناك.