بدعوة معززة من الأمين العام لهيئة علماء السودان البروفيسور محمد عثمان صالح شاركت الأسبوع الماضى فى ملتقى مهيب يبحث فى قضايا مهمة متصلة بموضوع جديد، يحث الخطى ويستعجل النتائج هو(إعادة هيكلة الدولة)، بعد أن أصبح إنفصال الجنوب أمراً واقعاً، وحتم قيام دولتين إثنتين لا واحدة ظللنا نعرفها وتعرفنا، ولطالما إنهمكنا فى مدح أمجادها ومآثرها.. إنه أمر دولة جديدة يراد لها أن تكون (جمهورية ثانية) ويراد لها فى هذا المقام أن تكون دولة (علم وإيمان) ويراد لها وهذه هى مشكلة المشاكل فإنه يراد لها أن تدرك بالبلاد دفعة واحدة وعلى أعجل ما تيسر كل ما فاتها وقصرنا فيه منذ رفع العلم. الإحساس بالتقصير وعامل الزمن كلاهما مبعث حرج للباحثين عن بداية جديدة، لكن المبشرين بأفكار منتجة أشعلوا الأمل، فالمقام مقام بحث علمي غايته المستقبل الذى يجرى تعريفه فى الكتب بأنه (غير ما نحن فيه الآن)، مما يلزم باتخاذ طريقة تفكير جديدة تعين على الإستبصار فى مواجهة المشاكل بدءاً بالإعتراف بالتقصير، إن التفكير المنتج واجب العلماء، وما أوجبه الله تعالى عليهم لم يوجبه على غيرهم، كما يقول الأمين العام لهيئة علماء السودان.. والأمر يتطلب الآن أكثر من أي وقت مضى مساهمات علمية حول شؤون مصيرية، التشريعات، الدستور، توجه الدولة وطريقة الحكم، إشاعة العدل، وذلك على قاعدة من العلم فالتخلف فى الفكر يعقبه خطأ فى التصويب. الحديث يلح على المراجعة والتصويب (كانت لدينا استراتيجية وخطط عشرية وخمسية وثلاثية والآن ربع قرنية، ولكن هناك مفارقات بين السياسات الموضوعة وبين التنفيذ على أرض الواقع، وهناك ضغوط خارجية وداخلية ومتغيرات فى الثقافة والسياسة وغيرهما) شخصية مطلعة على التجارب السابقة يرى أنه لا بد من الرجوع الى ما كان من تجارب دستورية منذ الإستقلال للوقوف على ما تركه السابقون، بل الإطلاع على كل ما بأيدينا من وثائق وحتى ما بأيدى الآخرين ممن لهم تجارب مثل تجاربنا، ويستوقفنا الآن ما يقال فى مراجع علمية تدخل البلاد مع قطع غيار التكنولوجيا:( فلننس إنهم كانوا ضدنا يوماً فنحن وهم اليوم جزء من مجتمع عالمى واحد). هناك تأكيد على ضرورة الإستعانة بأهل الرأي والإعلاء من شأنهم وتقديم دورهم دستورياً ليأتي بعده دور المنفذين، التعويل على المرجعيات وما ملكت أيدينا أنتج دعوة إلى(البحث عن مبررات الوجود أولاً) وهى دعوة للإنتماء وتبدو أقرب لروح الاستراتيجيات التى تميزت عالمياً فجميعها أفلح فى طرح الأسئلة الحرجة وفى مقدمتها: أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟. فى سياق التساؤلات الحرجة والحتمية سأل سائل عن الدراسات والخطط السابقة وإلى أين قادت البلد؟ وفي مقام العلم وأهل الإختصاص يتسنى بلا حرج استدعاء المستقبل على خلفية الماضي مادمنا لا نتبرأ منه، فالعلم يستخلص عصارة أمجاد الأمة ويتقوى بلغة العصر، هذا أطلق العنان لأسئلة من نوع آخرعن التكنولوجيا وحظنا منها وتأثيرها فى محيطنا كله، وفى إعادة هيكلة الدولة إكترونياً، بشرط تطوير المفاهيم الإدارية المتراكمة منذ دخول كتشنر السودان.. لابد من بيئة إدارية رقمية جديدة لا ترفض زراعة جسم جديد لهيكل رشيق يكون نواة لدولة مواكبة للعصر وذات مرجعية. الشأن المقدم على ما سواه هو مصير(تربيتنا) سارع من تمنى وضع قضية التربية بجوار كل القضايا الاستراتبجية المطروحة. الإعلاميون رأوها ضرورة للإعلام فلقد طالت وحشته، متخصص قال إن الإعلام لا ينفصل عن التربية فكلاهما تعليم تحتاج إليه البلاد لتنهض بعناصر مؤهلة. مشاكل التأهيل، التوظيف، الشخص المناسب فى المكان المناسب، التدريب، التفويض، القيادة الملهمة، حزمة عناوين قديمة تقفز الى حوار المستقبل كأنها لا مفر منها بين مطلوبات النهضة المنشودة مثلها مثل حزمة التكنولوجيا ولغة الأرقام، وتحليل البيانات، وتقارير الأداء ذات المصداقية، الدراسات الحديثة أعلت من شأن الموارد البشرية، وراهنت على أنها قبل التكنولوجيا وحتى المال مع سحره، وفى هذا تقول بعض بيوت الخبرة الدولية(فى النهاية يوجد فقط مصدر واحد للتميز المتواصل هوالأفراد) د. عبد الرحمن توفيق، لعل أولوية تمنح لقضايا تحسين أوضاع هؤلاء الأفراد الذين هم المواطنون فى النهاية للإرتقاء بمستوى معيشتهم ليتسنى دمجهم بشغف فى هذا الذى يجرى باسم دولة جديدة هم عمادها. بعيداً عن الأضواء يجري الحوار معولاً على رؤية العلماء وبصمتهم فى دولة تناسب المستقبل وتتخذ شرعيتها من(العفة، العلم، والحكمة) كما يقول ابن رشد.. إن إلتماس طريقة علمية فى التفكير وإصلاح الأمور لصالح مستقبل البلاد فى هذا المنعطف المفعم ببواعث التغيير يتطلب أن تتوحد مختلف الرؤى. مطلوب كخلاصة ورقة إطارية تلبي دعوة كريمة بلغت ساحة أهل العلم من نائب رئيس الجمهورية الأستاذ على عثمان محمد طه، مبتدراً هذا الحوارعلى أعتاب الدولة الجديدة. ورقة استراتيجية تتأسس على الإحاطة والرؤية النقدية، المقارنات، لغة الأرقام والنصح بشأن المناهج والسياسات وهيكلة رشيقة وجملة من التوصيات مهرها التنفيذ لا غير، هذا الحراك المتجه بكلياته نحو مستقبل البلاد، وبمشاركة كل أهله لا بد أن يكون للإعلام والنشر فيه دور، بل(ريادة) كانت له أصلاً على عهد الإستقلال، وتبتغي المعالجات الجارية إعادتها سيرتها الأولى. الرؤى المستقبلية لدولة السودان القادمة ملف يهم الجميع الآن إتحادياً وولائياً، إجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، تدرجاً الى القاعدة، ليتسنى توسيع المشاركة نحو دولة يراد لها أن تكون مواكبة للعصر، وفى نفس الوقت حسنة الصلة بجذورها، جديدة روحاً وفعلاً، تنطلق بتبصر، لا تكرر مساوىء الماضي ولا تتهم بالترهل والتقاعس وإضاعة حق وراءه مطالب حفيت أقدامه.