المصداقية مأخوذة من أصلها اللغوي «مصداق»، تقول هذا مصداق هذا، أي يطابقه سواء في القول والعمل، أو في المظهر والجوهر.. والمصداقية سياسياً المطابقة للواقع، أو مطابقة العمل للموثق المعقود، أو مصارحة الرأي العام أولاً بأول.. ولا أعرف في ساحة العمل السياسي شبيهاً لهذا النظام في سمة المصداقية أو هو الأقرب إليها من سائر القوى السياسية وبخاصة المعارض منها، على أيسر تقدير، وهذه هي الدلائل على مصداقية هذا النظام. أولاً: ظل النظام متمسكاً بالوفاء لحد كبير، لمبادئه التي أعلنها، عندما اختار طريق السلام خصوصاً مع الحركة الشعبية، كما ظل يبحث بجدية عن الحلول السلمية لسائر النزاعات المسلحة.. فلما وجد تقرير المصير كأمر واقع تعامل معه بمرونة دون تفريط في المصالح القومية، وهو أمر واقع سبقته إليه المعارضة رسمياً وإجماعياً في إعلان القضايا المصيرية بأسمرا، كما أنه وجده مطابقاً لمبادئه في حرية الاختيار، وهو ينحو إلى الوحدة الطوعية فيفضلها على الوحدة القسرية.. يتجلى ذلك في التفاوض لعقد اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية، أو لإنفاذها حتى نهاية فترتها الانتقالية.. وعمل جاهداً ليكون الخيار هو الوحدة، فلما غيرت الحركة الشعبية خطها الوحدوي، تعامل بواقعية مع الاستفتاء ونتائجه، على اعتبار أن الانفصال إرادة جنوبية تحت حكم الحركة للجنوب، فاعترف بالنتيجة تقديماً لإرادة السلام على العودة للحرب، بل إنه قرر الاعتراف بقيام دولة الجنوب في موعدها المضروب، وذلك هو قمة المصداقية مع الذات أو مع الغير. ثانياً: دعا لقيام حكومة ذات قاعدة عريضة، لا حكومة قومية أو إئتلافية كالتي تقام عقب الثورات الشعبية التي تغير الأنظمة.. وهو في ذلك يلتزم بالدستور الانتقالي نفسه، الذي أقر شرعية النظام بعد الانتخابات سواء في الشمال أو في الجنوب دونما حاجة لانتخابات جديدة، وإنما تأتي الانتخابات بعد انصرام أجل النظام الراهن، ثم فتح الحوار على مصراعيه مع قوى المعارضة، سواء على المستوى الرئاسي أو الاستشاري، حول الأجندة الوطنية، وذلك يمثل قدراً كبيراً من المصداقية، سواء في الالتزام الدستوري أو الالتزام السياسي. ثالثاً: وتتجلى المصداقية كذلك في حرصه على أحادية الجنسية، دون ازدواجها بعد قيام الدولتين، وهو حق سيادي لهما، لا تفريط في إنفاذه، وهو ما يجدد التأييد الشعبي للنظام، بل يكسبه أرضاً جديدة من هذا التأييد، وهو يرى نظاماً حريصاً كل الحرص على الحقوق السيادية للدولتين، بل على إعطاء هذه الحقوق لأهلها في المسائل العالقة، وذلك من خلال المشورة الشعبية لجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والحوار المتكافيء حول أبيي.. وذلك دون أن يخضع لأي ضغط داخلي أو خارجي، ثم خطط للتكامل الاقتصادي لمستقبل العلاقة بين الدولتين. رابعاً: وتمتد هذه المصداقية إلى سائر الشؤون، وعلى رأسها الشأن الاقتصادي ببعده الاجتماعي، فصارح الشعب بالوضع الاقتصادي الاستثنائي الناشيء عن آثار الأزمة المالية العالمية (والتي امتصها تدريجياً)، علاوة على ضغوط التناقص في موارد البترول جراء الانفصال على الموازنة العامة، والتحسب له من الآن بموارد أخرى بديلة في إطار النهضات الزراعية والصناعية والتعدينية والطاقوية، بل هي موارد أكثر استدامة وأوسع مردوداً.. ونشط في تحريك هذه المصادر، ثم قدم الحلول الموقوتة والبعيدة المدى لثالوث: الفقر والبطالة والفساد، كظواهر لابد من الاعتراف بها.. ولو أنها أضيق نطاقاً من دول عديدة حولنا، فربط بين إزالة معوقات الاستثمار لاستقطاب تدفقه، وبين تخفيف آثار هذا الثالوث، وخفض الإنفاق الحكومي لصالح القاعدة العريضة من العاملين، وابتدع الحلول الذكية لاختراق الإشكاليات الناشئة عن هذا الثالوث، على قاعدة اقتصاد السوق الاجتماعي، أو الذي يتخذ البعد الاجتماعي كغاية من سياسة التحرير الاقتصادي. خامساً: لم يقم بالترويج الخارجي الكافي لحقوق المرأة والحقوق الدينية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، على اعتبار أنها واجب ديني قبل الواجب الإنساني، تاركاً الواقع يتحدث عن نفسه، مع أنه كان يجب أن يروج أكثر فأكثر لهذه الحقوق كمكاسب مستحقة غير مسبوقة في تاريخ السودان أو في الواقع الإقليمي المحيط، وقد نجح في إنفاذ التحول الديمقراطي بالتعددية الحزبية وما يتبعها من حرية التنظيم والتعبير، مثلما نجح في إنفاذ مستحقات السلام الشامل وحصر النزاع المسلح في أضيق نطاق. هذا هو حصاد المصداقية السياسية لهذا السلام، وهو سيداوم مصداقيته في قيام مجتمع متقدم ودولة ناهضة.. والله المستعان