هدفت من كتابة المقال السابق الى توصيل فكرة أن الفدرالية -عملياً ونظرياً- ليست أداة لتمزيق الشعوب بل هذه وسيلة لحفظ وحدتها في جو من احترام التنوع الثقافي والإثني، وأن النظام الفدرالي هو الأنسب لتنظيم علاقات الحكم في بلد مثل السودان، يعتبر من أكبر مستودعات التنوع في أفريقيا، وأعتقد جازماً أن في ذلك حلاً موضوعياً لمطالب أهل جنوب السودان وأطرافه الأخرى الذين يطالبون بالمشاركة والإسهام في حكم أقاليمهم ومناطقهم في ظل سودان موحد، مع كفالة التوزيع العادل للثروة والتوازن الحكيم من خلال برامج التنمية والخدمات مما يجعل الجميع يفوتون الفرصة على أصحاب الغرض بالداخل والخارج الساعين لتمزيق وتفتيت السودان من خلال مشروع تقرير مصير جنوب السودان، حيث يسعى البعض خلال ذلك للنفاذ لفصل جنوب السودان الذي لم يكن مطلباً لأهل ومواطني جنوب السودان في يوم من الأيام بدليل أن النخبة المثقفة من طلائع وقيادات جنوب السودان لم تطلب أكثر من قيام دولة فدرالية في إطار السودان الموحد تحفظ للجنوب تميزه بعد استقلال السودان، أما الدليل المعاصر على حرص أهل الجنوب على إظهار وممارسة الانتماء الوجداني والاجتماعي للوطن الأم يبدو من خلال الهجرة والنزوح لداخل السودان لا لخارجه بعد تفاقم الأحداث وتطور الحروب والقتال، أما النازحون الذين ذهبوا لدول الجوار وغيرها من دول العالم فلم يكونوا إلا نماذج من السياسيين وعينات مخبرية مختارة بواسطة عملاء الاستعمار لصناعة وتحضير الأزمة وتقديمها كبرهان للاضطهاد والتهجير. إن النظر الموضوعي يؤكد استحالة قدرة الانفصاليين على إقامة دولة مستقلة بجنوب السودان لانعدام مقومات الدولة بكافة النواحي. أولاً: إن التداخل العرقي والتكامل الاجتماعي والمصالح الاقتصادية والحدود الجغرافية قد تداخلت وتشابكت بين أهل الشمال والجنوب بحيث يصعب حلها بالبساطة التي يدعو لها البعض أو التي أشارت لها بعض النصوص الخاصة بذلك ضمن قانون الاستفتاء الذي أجيز مؤخراً. ثانياً: ما أكده المجتمع الدولي خاصة شركاء الإيقاد أن قابلية الجنوب للانفجار الأمني ماثلة للعيان من خلال القنابل الموقوتة والصراعات القبلية والإثنية المؤجلة التي غالباً ما تشعل النار عند دخول شعب الجنوب في مرحلة المحاصصة وتوزيع السلطات والثروات بعد الانفصال لا قدر الله، بل تشير المعطيات المتوفرة لديهم إلى أن الجنوب الجديد سيكون مسرحاً لصراع اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي وغيرهما من الطامعين، ويعتقد المجتمع الدولي أن شمال السودان وقتئذ سيكون ملاذاً آمناً للقاعدة ودعاة التطرف الإسلامي.. إلخ. ثالثاً: يرى كثير من المراقبين والباحثين الموضوعيين إن إجراءات ما بعد الانفصال ربما أفسدت كل هذه الجهود التي جاءت بها اتفاقية السلام وأعادت السودان إلى مربع الحرب الأول، خصوصاً إجراءات ترسيم الحدود عملياً على الأرض وفي خاطر وذهن الجميع النموذج المصغر لحدود أبيي الذي قاد الفرقاء الى التحكيم الدولي في لاهاي، كما أن إجراء الانفصال لو تم لجنوب السودان فسيكون مغرياً لبعض الأقاليم حيث يتصدى بعض أبنائها المغامرين من شركاء وأصدقاء الحركة الشعبية لمحاولة استعارة ذلك النموذج جزافاً وإحداث المزيد من المشكلات وعدم الاستقرار المربك للوطن الأم وتحقيق أحلام النظام الاستعماري الجديد المتربص لابتلاع الثروات وهزيمة الأفكار خاصة إذا كانت إسلامية وكسر الإرادة والعزة - خاصة إذا كانت وطنية وجهادية. رابعاً: إن النموذج السيئ لإدارة الجنوب الذي تقدمه الحركة الشعبية اليوم في الواقع لا يبشر بخير، فقد ظلت الحركة تكبت الأصوات وتمنع الممارسة السياسية لغيرها من الأحزاب، حتى شريكها المؤتمر الوطني، يعاني قادته هناك من التصفية والاعتقال وإغلاق الدور وإبادة ومصادرة الممتلكات، وظلت حكومة الجنوب تُدير الأمور بالجنوب بذراع الجيش والاستخبارات وتسعى لتغيير معالم الحياة التي كانت مستقرة بالجنوب قبل مجيئها وذلك عبر تجفيف آثار الشمال بقتل وطرد التجّار والسكان الشماليين والتضييق على دور العبادة والزكاة ومؤسسات التعليم الإسلامي بل عملت حكومة الجنوب بكل جرأة لتعطيل الأنشطة الخاصة بالحكومة الاتحادية خاصة الأذرع الإيرادية الهامة مثل الجمارك والضرائب والانكفاء تجاه دول الجوار الأفريقي في كافة المعاملات إمعاناً في الإفريقانية على حساب العروبة والإسلام. مما حدا بالكثيرين للقول والتدليل أن الانفصال قد وقع عملياً ولم تبق إلا الإجراءات الشكلية التي كفلها الدستور والقانون. خامساً وأخيراً: إن أهم معالم خطورة مآلات الانفصال الذي بدأت فصوله فعلاً، التقرير الذي أصدرته عشر منظمات إغاثة دولية في الأسبوع الماضي وحذرت فيه من إمكانية اندلاع حرب أهلية في جنوب السودان، وذكر التقرير أن حوالي (2500) مواطن قد سقطوا في الجنوب خلال عام (2009م) فقط مما يعد أكثر من العدد الذي سقط في دارفور في نفس الفترة وأن النازحين بلغوا (350) ألف، هربوا من جراء الصراع القبلي معظمهم من الأطفال والنساء، وتحدث التقرير عن عجز حكومة الجنوب عن إعادة النظام لدخول قواتها طرفاً في الصراع وضعف تأهيل شرطتها لحفظ النظام، وأشار التقرير الى فشل قوات حفظ السلام في حماية الأبرياء.. إلخ. وبعد:- كل هذا يحدث قبل الاستفتاء وقبل إجراءات تقرير المصير فكيف الحال إذا أفلح المغامرون ومزورو إرادة الأمم في تمرير مخططهم الماكر لفصل الجنوب؟ كيف يكون الحال لو غفل العقلاء وتركوا للسفهاء خرق ما يليهم أو ما تحت أرجلهم من السفينة؟.. غرقوا إذن وغرقنا جميعاً. (انتهى)..