جاء في الأخبار أن اللجنة العليا لتسمية الشوارع والمعالم بولاية الخرطوم، في اجتماعها أمس برئاسة وزير التخطيط العمراني عبد الوهاب محمد عثمان، قد أجازت توصيات اللجنة الفنَّية برئاسة د. يوسف فضل الخاصة بتسمية شوارع ومعالم محليات الخرطوم السبع، ما عدا محلية كرري التي ستكتمل خلال الأسبوعين المُقبلين. وأعلن د. فضل عن اكتمال تسمية الشوارع والمعالم بنسبة 95%، وأشار إلى أن موجهات اللجنة تقوم على اعتماد أسماء الذين كان لهم دور واضح في تاريخ السودان، بجانب مراعاة الجوانب التي ترتكز على التأصيل والقيم السودانية. وحضر الاجتماع المذكور رؤساء المجالس التشريعية ومنسقو اللجان الشعبية بالمحليات. أول ما يتبادر إلى الذهن لدى مطالعة الخبر أعلاه هو سؤال بديهي: ما الذي دعا لتشكيل لجنة لهذا الغرض، ولماذا في هذا التوقيت بالذات الذي يصادف أواخر «الفترة الانتقالية»؟ فنحن نعلم أنه منذ توقيع اتفاق نيفاشا، فإن البلاد دخلت في ما يعرف- دستورياً- بالفترة الانتقالية، وهي بطبيعتها «فترة متحركة» لأن «الانتقال» يعني الحركة سواء كان من حيث الزمان أو من حيث المكان، وبما أنها كذلك فهي لا تصلح توقيتاً مناسباً لإجراء أعمال أو القيام بمهام تستدعي طبيعتها الثبات والديمومة والتواصل، كأسماء الشوارع والمعالم الحضرية التي تميز المدن كالميادين والمباني العامة والمرافق السياحية، أما من حيث «الغرض»، فكما نعلم جميعاً فإن معظم شوارع الخرطوم الرئيسية وساحاتها تحمل أسماء، لا يختلف الناس إلاّ على القليل منها، وظل بعضها يحمل تلك الأسماء منذ استقلال السودان في الأول من يناير 1956. ولم تحاول معظم النظم السياسية التي حكمت السودان على مدى نصف القرن الماضي، فرض أسماء تخصها على الشوارع أو الساحات العامة، عدا فترات الحكم الشمولي، وتلك في حد ذاتها كانت استثناء لم يأبه الناس له كثيراً، فاستمرت «حديقة عبود» في جنوبالخرطوم بحري تحمل الاسم ذاته برغم زوال النظام، وتجاوز الناس ذلك باعتبارها ذكرى لقائد حكم البلاد لست سنوات، ولم يكن منحازاً حزبياً أو آيديولوجياً، لكن بسقوط نظام جعفر نميري بدل الناس تلقائياً «حدائق مايو» إلى «حدائق أبريل» باعتبار أن أبريل جبَّت مايو، ولما كان لمايو من عداوات وحزازات وغبائن مع جل القوى السياسية وما خلفته من غضب في نفوس الناس. النظام الحالي، نظام «الإنقاذ»، ذهب مذهباً قريباً من النظامين الشموليين السابقين، فأسمى بعض الشوارع بأسماء بعض منسوبيه الذين قضوا نحبهم في الحرب الأهلية بالجنوب، وأسمى بعضها باسم النظام أو شعاره، فبدل اسم «شارع المغتربين» الفاصل بين أحياء الخرطوم بحري من جهة الغرب والسكة الحديد والمنطقة الصناعية شرقاً ليصبح «شارع الإنقاذ»، مستخدماً في ذلك مشروعية القوة وسطوة السلطان، ولقي ذلك استنكاراً مكتوماً في أوساط اجتماعية عريضة، لأن «الإنقاذ» في ذلك الوقت وحتى اليوم هو عهد «مصنَّف» سياسياً وحزبياً لدى معارضيه الكُثر، وهو قد أسفر بعد حين من استيلائه على الحكم عن وجهه الحزبي والآيديولوجي وأعلن ذلك صراحة على الملأ، فهو بالتالي لا يصلح أن يكون «رمزاً» أو «اسماً» يتراضى عليه السودانيون ويجمعون على إطلاقه على بعض شوارعهم أو معالمهم الحضرية. حسناً فعلت سلطات ولاية الخرطوم والوزير عبد الوهاب عثمان أن اختار بروفيسور يوسف فضل أستاذ التاريخ، لرئاسة اللجنة الفنية لتسمية الشوارع والمعالم الهامة في العاصمة القومية، وكما أسلفت فإن معظم شوارع الخرطوم وأم درمان وبحري تحمل اسماءً قديمة، وأصبحت «تاريخية» ومعلومة لدى العامة من مستخدمي تلك الشوارع والساحات العامة، وبالتالي فإن أي تغييرات واسعة- غير ضرورية- في أسماء الشوارع والساحات والمعالم سيحدث قدراً من الإرباك لدى العامة، كما أن إطلاق أسماء غير مجمع عليها شعبياً ووطنياً سيقود إلى إهمال تلك الأسماء الجديدة، إن لم يفجر نزاعات غير ضرورية أيضاً، في وقت تشكو فيه البلاد أصلاً من النزاعات الجهوية والإثنية والعقائدية. ولتفادي كل ذلك، فقد كان الأجدر- عندي- أن تؤجل مهام هذه اللجنة إلى ما بعد انقضاء الفترة الانتقالية، وحتى نرسو على بر، إن كنا سنرسو، وإذا كان لابد أن تواصل اللجنة عملها، لأسباب عملية، فأعتقد أن أنسب الحلول هو اللجوء لترقيم الشوارع بدلاً من تسميتها، مع الاحتفاظ بالأسماء التاريخية المشهورة، فترقيم الشوارع يسهل مهام الاتصالات والمواصلات والبريد، وهو الأكثر عملية والذي تأخذ به معظم الدول المتقدمة، كما أن «الأرقام» في حد ذاتها محايدة ولا تحمل أي مدلولات سياسية أو أيديولوجية تكون محل نزاع.